كانت روحه تحوم حول مئذنة المسجد الذى يطل على الميدان.. أخذ يتذكر ما مر على المكان من أحداث ومشاهد.. بالأمس القريب كان عشرات الآلاف يقفون وملامح التحدى والجدية تكسوا وجوههم.. هتافهم واحد هدفهم واحد وعيونهم تتطلع إلى غاية واحدة.. كان أيضا شاهدا وحاضرا ومتحسرا وهم يوما بعد يوم يتفرقون ويتشتتون.. الأصوات تداخلت والأيدى المتشابكة أصبحت متصارعة متناحرة.
أخذته نفسه تعود به كسرعة البرق إلى زمانه.. وجده يستعيد ذكريات ما كان وما جرت به الأيام.. تذكر عندما عايش أيام أن أصبح العبيد سادة فوق الرؤوس فى سابقة فريدة فى تاريخ الشعوب.. فعلناها وولى المماليك الحكم وأصبحوا قادتنا ورؤسائنا لسنوات طويلة.
عندما فر المماليك أمام حملة نابليون وقف الشعب يحارب بأيدى عارية.. تذكر كيف نظمت الصفوف وكيف أصبح قائدا لحملة المقاومة الشعبية.. تذكر كيف ضربوا أروع مظاهر التنظيم والعبقرية فصهروا الحديد وصبوا المدافع وحاربوا الفرنسيين ندا لند.. استشهد الآلاف وكتبنا صفحة ناصحة فى تاريخ الكفاح.. كنت قائدئهم وزعيمهم أنا عمر مكرم.
يئس الفرنسيون ورحلوا.. تذكرت روحه ما قام به والألم يعتصرها وكيف لم يتعظ من تجربة سيادة المماليك وكيف خانه تفكيره وإدراكه فى لحظة الاختيار وكيف جاء بالألبانى محمد على باشا ومليشياته ووضع قيادة مصر فى يده وصرف من كافحوا وحاربوا معه.. ذهب كل منهم لعمله وذهب هو ليعاود تجارته.. تذكر كيف أن محمد على خاف من نفوذه فاعتقله ونفاه وحدد إقامته سنوات طويلة كان يعض فيها البنان وهو يكابد الحسرة والندم والأحزان.
سنوات وسنوات وروحه تحوم معذبة بما كان.. شاهدت روحه أحمد عرابى ممتطيا فرسه فى عزة وشموخ أمام الخديوى توفيق سليل محمد على باشا الذى ولى عرش مصر فى غفلة من الزمان وقد نسى كيف جاء ملكهم وهو يقول أنتم عبيد أحساناتنا.. يرد عرابى بأننا ولدنا أحرارا ولن نستعبد بعد اليوم.
تمر الأحداث من ثورات وتضحيات وسقوط الآلاف من الشهداء خلال احتلال ومقاومة ومن عهود وعهود حتى وصل الحال للحظة توقف فيها الزمان لموقف لم تجد بمثله الأيام.
ثار الشعب على الظلم والفساد بعد أن بلغ التراقى.. شاهدهم يخرجون ويتجمعون أمام مسجده بالملايين، كان تمثاله يقف شامخا يطل على الميدان الذى شهد أول ثورة شعبية شاملة فى تاريخ هذا الشعب.
يتجمعون حول تمثاله يهتفون يتحاورون ولا يعرف معظمهم عن صاحبه شيئا.. لم يلمهم كثيرا فالعيب على قادة ومثقفى وطنهم الذين أهملوا تاريخ هامات وأبطال الوطن فتحولوا لتماثيل صماء فى الميادين لا يعرف عن أصحابها شيئا.. كم كان يحس بالعجز والقهر وقد تحول اسمه لمكان لتلقى العزاء فى موتى علية القوم.
خلال أيام قليلة تحقق النصر وهتافات الانتصار علت لعنان السماء.. فرح.. تهلل.. أحس بأن ما عجز عن تحقيقه فى زمانه تحقق الآن.. الشعب أصبح السيد.. وقف يتطلع وروحه تتمايل نشوة من السعادة.. أخيرا سيشاهد اللحظة.. كانت الدبابات تحيط بالمكان.. وجد الجموع تصعد فوق الدبابات تهلل وتصفق.. خفت ابتسامته ونشوة فرحته.
طارت روحه خلف جموع ذهبت لتقف أمام مبنى عظيم.. دقائق وكانوا أمام من تحيط به الفرسان.. وقف يمتن عليهم بموقفهم المساند المتأخر وأن عليهم أن يحمدوا الله أنهم لم يكونوا مثلهم مثل قوات دولة أخرى مجاورة وقفت ضد إرادة شعبها.. أنتظر أن يقول له أحدهم أن موقفهم واجب وطنى وأن التاريخ يرد عليه بمصير من يقف أمام طوفان إرادة الشعوب.. ولكن.. لم ينطق أحد..!!
وعدهم بالأمن والأمان.. سلموه رقبة العباد ومفاتيح البلاد.. صعقت روحه وهو يرى هذا المشهد..!!
تواترت الأحداث سريعا.. من يومها لم تعرف روحه الاستقرار.. نصبت الخيام مرة أخرى وعلت الأصوات كل يوم بهتاف.. تعددت المنصات وتداخلت الأصوات وأصبح الميدان كمولد بلا مولود.
شهور سهد وعذاب.. محاكمة أم لا محاكمة..؟؟ علنية أم سرية..؟؟ شرم الشيخ أم المركز العالمى.. المركز العالم أم طره..؟؟ المليارات ستعود أم لن تعود..؟؟ أصبحت سيرتها كسيرة بهية التى لا تعرف من الذى قتل ياسين..!! الدستور أولا أم الرئيس أولا..؟؟ اختراع مصطلح المواد التى فوق الدستورية..!! مجلس الشعب دستورى أم غير دستورى..؟؟ ملهاة ماسبيرو ومحمد محمود..!! كم كانت روحه تتعذب وهو يرى تاريخ أمة وآلاف الكتب تحترق بأيدى العابثين..!!
تابع الهلع والفزع من فوز الإخوان والسلفيون فى الانتخابات.. وجاء رعب ارتفاع أسهم أبو اسماعيل واختراع حدوتة والدته أخدت الجنسية أم لم تأخذ لإقصائه.. يوما بعد يوم اتسعت المأساة وظهرت جماعة العباسية لمواجهة جماعة التحرير..!! تجئ لحظة انتخاب الرئيس وتخرج بعض الوجوه القديمة منهم من يركب حصان ومنهم من يحيط به الفرسان.
حمد الله وسكنت روحه وشعرت بالطمأنينة وهى ترى أول رئيس يرتفع صوته بالميدان تحيط به نفس الوجوه التى حفظها وعايشها لشهور طويلة وهى فرحة مستبشرة وهو يبادلهم الوعد بالوعد والأمانى بالأمانى.
وتأتى الرياح بما لا تشتهى السفن.. وضعت العراقيل ورميت الأشواك فى طريق القادم الجديد.. إعلان دستوى مكمل يجعل الرئيس دمية لا تحل ولا تربط.. البت فى قضية كانت أمثالها تأخذ سنوات طويلة أصبح فى ليلة وضحاها..!! حل مجلس الشعب.. أصبح الرئيس الجديد مكبلا.. الأيدى بالمكمل والأرجل بحل المجلس.
أيام وأسابيع وجاءت لعبة الموت الإكلينيكى أم أن الحالة مستقرة لتشتيت الانتباه بقضية منتهية إكلينيكيا..!! ثم بدأت حملة مستعرة وترهيب وتخويف.. الإخوان سيكوشون..!! بدأ كل من لم يجد له نصيبا فى ذبيحة الوطن تستعر نفسه.. بدأت حملة شرسة لمحاولة اللحاق بالغنيمة وإيجاد موقع قدم حول المائدة.
وكانت المفاجأة وهو يستمع لبيان وضع الأمور فى نصابها وعودة السلطة للشعب ورئيسه المنتخب.. هتفت روحه اليوم واليوم فقط انتصرت الثورة.. قال لنفسه ليبدء العمل لشفاء وطن جريح من علله التى تمكنت منه وأوهنته.
قالت له نفسه.. ولكن أين الرجال..؟؟ تلفت فوجد الرجال ليسوا على قلب رجل واحد.. تمكن منهم حب الذات حالة من السكون المريب والترقب الغير حميد تتخللها الوقفات والإضرابات والاحتجاجات التى لا تنتهى.. واليوم اليوم وليس غدا.. لا يريدون رئيسا ولكنهم يريدون ماردا يخرج من قمقم قائلا شبيك لبيك لميراث سنوات هضمت فيها الحقوق.. أصبح الوطن يقف شريدا تائها لا يرى طريق المستقبل.
تلفتت روح عمر مكرم خجلا وهى ترى ساحة الميدان وقد تحولت إلى سويقة تتصدرها عربة فوقها قدرة من الفول ونصبات لغرز فقد أدركت أن جينات الأجداد تسرى مجرى الدم فى الأبناء.. جينات القلوب الشتى وعشق المصلحة.. حانت منه التفافة على المشهد قبل أن تختفى روحه وجدها تقول.. مافيش فايده.
تمثال عمر مكرم فى التحرير
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
roma roma
غريب الدار...!!!!!!!!!!!!!!!
عدد الردود 0
بواسطة:
عبداللطيف أحمد فؤاد
تحية لك ايها الوطنى الرائع الكبير الدكتور طارق
عدد الردود 0
بواسطة:
هناء المداح
التاريخ يعيد نفسه.. والصراع بين الحق والباطل لن ينتهي أبدا
عدد الردود 0
بواسطة:
حمدي يوسف
روح المكان وروح الابطال ..
عدد الردود 0
بواسطة:
عابر سبيل
مصر الثورة ....... و مصر السويقة
عدد الردود 0
بواسطة:
أم عبد الرحمن
د. طارق النجومي
عدد الردود 0
بواسطة:
عابر سبيل
إستكمالا لتعليقى رقم 5
عدد الردود 0
بواسطة:
سحر الصيدلي
مقالة رائعة
عدد الردود 0
بواسطة:
نشأت النادي
إنها السلطة يا سيدي
عدد الردود 0
بواسطة:
سامح لطف الله
د طارق النجومي وعمر مكرم