شاهدت هذا الأسبوع مسرحية «ليل الجنوب» على مسرح الغد.. المسرحية كما هو واضح من عنوانها تدور فى جنوب مصر. مؤلفها شاذلى فرح ومخرجها ناصر عبدالمنعم، وناصر لن يقدم على إخراج نص ضعيف. وجدت نفسى أمام تجربة جميلة وغير مربكة رغم التجريب فى الكتابة والإخراج والأداء.. أنت أمام خشبة مسرح أشبه بمجموعة من الكهوف الصغيرة. بيوت الجنوب التى رغم ضيقها أمامك، وكونك لا ترى ما خلفها يخرج منها ألم كثير.. وفوق البيوت/الكهوف قليل من الناس أهمهم غازل الحبال الذى لا تعرف لماذا يمضى الوقت غازلا حباله إلا فى النهاية حين تسدل الحبال، لا الستارة، أمام الجميع تقيدهم فى المكان والزمان.. المسرحية تحتفى بقضايا المرأة بصراحة وبلغة فنية راقية. شعرية فى الحقيقة تستدعى شعر المربعات الشهير منذ ابن عروس فى القرن التاسع عشر، وهو الشعر الذى يتحول إلى أقوال خالدة. قد يأخذ هذا الشعر والحوار على هذا النحو: النص بعيدا عن الحركة بسبب جمال ومتعة الحوار لا لشىء آخر، مما قد يغرى الكاتب بالانسياق وراءه على حساب الدراما، لكنه هنا موجز شديد الإيجاز، كما أن أبطال العرض من النساء يقمن بدورهن كشخصيات يطحنها التخلف، وكشخصيات تمارسه على بعضها، فلا يبدو فى الدراما أى ترهل وأنت تعرف كمتفرج أنهن يتطورن بالمسرحية أمامك.. وكونهن يلعبن الدورين بإتقان يعنى أنهن ممثلات بارعات جدا على رأسهن طبعا الفنانة الرائعة وفاء الحكيم ومعها الموهوبات دعاء طعيمة وسامية عاطف وشريهان شاهين الأربع عمّات لراوى النص أمامنا الفنان يحيى أحمد، الذى يقابله الطفل الجميل حازم عبدالقادر.. يحيى أحمد يروى الماضى ويؤكد عليه الطفل يحيى أحمد، فهو الحاضر ويتماهى الاثنان دائما فكأن الزمن لا يتحرك. امرأة يريد أخوها وأختها قتل ابنها ثأرا مما فعله زوجها الذى قتل أحد أفراد الأسرة، وليس هناك أحد من أسرته حيا لينتقما منه فليس أمامهما إلا الطفل ابنه وابن أختهما.. انظر إلى بشاعة الثأر الذى وصل إلى قتل ابن الأخت بيد الخال.. ولا تجد المرأة طريقا للتخلص من ذلك غير قتل ابنها بيدها بالرصاص، فالطلقة التى ستصيبه منها ستكون أحن من طلقة خاله. قد لا تتقبل ذلك ولا تهضمه لكنه الصعيد القبلى المتخلف. وهناك أيضا المرأة لا تنجب وتجرب كل العادات ولا فائدة حتى آخر ما فى الجنوب وهو التدحرج على الجبل الشهير، وتكتشف أنه تم اغتصابها وهى تفعل ذلك وتحمل سفاحا. وامرأة ثالثة غاب زوجها فى الخارج وتعانى الوحدة فتسقط فى الرذيلة وهى لا تدرى من يتربص بها وأقرب الناس إلى زوجها، وامرأة متعلمة يحكم عليها بالزواج حسب التقاليد من ابن عمها الجاهل وترفض.. يفسر الرفض بأنها ليست عذراء وتكتشف النساء وهن يكشفن على بكارتها أنها لم تختن، فيتم ختانها فى مشهد غير إنسانى.. وهكذا تتقلب بين العادات التى محورها قمع المرأة وإهانتها لكن دون خطابة وبتبادل جميل فى الأدوار وأداء فنى راقٍ لكل الأبطال ومن معهم وهكذا حتى النهاية، فيحتل الطفل الصغير مكتب الشاب راوى الأحداث منذرا بأحداث أخرى قد لا تختلف كثيرا.
ليل الشمال:
لسنا هنا فى الحقيقة فى ليل الشمال، لكن لأن صاحب المعرض الفنى هو الفنان السكندرى الكبير فاروق وهبة – ولد فى المنصورة وعاش وتعلم وقام بالتدريس فى كلية الفنون بالإسكندرية - اخترت هذا العنوان. وفاروق وهبة لا يحتاج إلى تقديم، فمعارضه كثيرة طوال رحلته فى مصر وأوروبا والعالم، وجوائزه كثيرة جدا من معارض الدنيا. فى هذا المعرض بالهناجر يختار فاروق وهبة لوحات قائمة على فن الكولاج. ولوحاته تمزج بين الموضوعات الفرعونية والمصرية فكأنه يؤكد على تواصل الروح المصرية.. يا ترى هل هذا مبعث البهجة التى تطل من الأعمال؟ سؤال سألته لنفسى وأنا أقف أمام اللوحات وسائر الإبداعات. تنقلنا الروح الفرعونية فى استلهامها إلى السماء، وعلى الأرض ما يستحق البهجة والتواصل فالمزج بين ما اعتبر حكايات وأساطير فرعونية هو حقيقة جميلة ناهيك عن الحقائق نفسها. ويتجلى ذلك كله فى لوحاته أو تكويناته العملية التى تتجاوز الديكور إلى حقائق راسخة على الأرض.. ليل الشمال هنا الذى أبدع فيه المؤلف لا يبتعد عن أصل الحضارة وهو ليل الجنوب، لكنه الليل البعيد الذى تتكالب على نسيانه الآن الأفكار الرجعية، والذى لا نعرفه فى مدارسنا للأسف كأنه سقط من تاريخنا وهو تاريخنا الأصيل..وهكذا تبدو الأعمال كلها مثل رحلة النيل الهادر يمسك بروح البلاد وهو يفيض عليها من خير.. ليل الإنسان المصرى المندهش من الطبيعة والتى بلغ فى الاحتفاء بها وبالبشر عليها أقصى درجات الاحتفاء فى الحب والموت والدين.. وكل تجليات الروح الجميلة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة