سأتجاهل ما نعيشه من مآسٍ متكررة، ما بين جرائم الشرطة فى فض الاعتصامات السلمية بالقوة، وخراب اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور، وتخريب الاقتصاد، وتدمير العملية التعليمية. فقط سأتناسى كل هذا وسأتذكر معك الأسباب القريبة لمحبتنا لهذا البلد، والتى من أهمها تلك الجرعة الثقافية التى حصلنا عليها صغارا فدخلت فى مسامنا وأورثتنا عشقا هانت معه الروح ورخص من أجله الدم، والدم غال، لكن الأغلى مصر.
هكذا رضعنا الحب رويدا رويدا، بغنوة، وبقصيدة، وبصوت صادق لا يخالطه الزيف ولا ينال منه الرياء، فى المدرسة فى نشيد الصباح كنا نغنى «يا أغلى اسم فى الوجود»، وفى تحية العلم كنا نغنى «بلادى بلادى»، وفى الأعياد الوطنية كنا نغنى «الله أكبر فوق كيد المعتدى»، وفى «العادى» كنا نغنى «يا حبيبتى يا مصر»، وكان طبيعيا حينما وجدت مصر نفسها فى ميدان العزة، أن نستعيد كل هذا الميراث، بالإضافة إلى تراث أحمد فؤاد نجم، والشيخ إمام، وما استجد من أعمال فنية تنامت عبر سنين من الحب والقهر والحلم والأمل. وفى اعتقادى فإن سبب الرجوع إلى هذا التراث البعيد نسبيا هو أنه كان تراثا صادقا، ليس به شبهة، ولا يتضمن نفاقا، الكلمة صادقة والصوت حالم والصورة واضحة، و«اللى هيبعد من الميدان عمره ما هيبان فى الصورة».
تذكرت هذه الذكريات القديمة والبعيدة، وأنا أشاهد أحد البرامج فى الفضائية المصرية، والذى خصص للأغانى الوطنية، فتخيلت أنه سيلقى الضوء على ما يجهله الكثيرون من إخوتنا وأبنائنا من تراث، وتخيلت أنه سيستضيف أو على الأقل سيشير إلى عظماء الفن الحقيقيين الذين جسدوا لنا معنى الوطن ببساطة وتلقائية وحب حقيقى، فكانت الصدمة لا تحتمل، إذ تغنى السادة مقدمو البرنامج ومعدوه بالأغانى الوطنية التى أداها المطربون الحاليون «نانسى» وحمادة هلال وهلم جرّا.
لا أعيب على نانسى ولا هلال، فأعمالهما الفنية، وإن كنت لا أستسيغها لكنى لا أعارض وجودها، ولا أعترض عليها، لكنى أعيب بالتأكيد على جهل مقدمى البرامج ومعديه بمعنى الأغنية الوطنية التى تجسد الحلم، وتنقش على الذاكراة بصمتها، وشتان بين حمادة هلال الذى غنى «شهداء 25 يناير ماتوا فى أحداث يناير» ووديع الصافى الذى غنى «عظيمة يا مصر»، وشتان بين نانسى التى غنت «لو سألتك إنت مصر قولى إيه» ممجدة انتصارات كرة القدم، ونجاح سلام التى غنت «يا أغلى اسم فى الوجود» تحت دانات المدافع أثناء العدوان الثلاثى، بل إننى أرى أن مجرد جمع هذه الأسماء على اختلاف قيمتها وحفظ فوارقها فى جملة واحدة خطيئة لا تغتفر، أرجو أن يغفرها لى هؤلاء العظماء.
إننى أنتهز هذه الفرصة غير السعيدة وأطالب وزارة الثقافة بإقامة حفل تكريمى لفنانينا العظماء الذين أحبوا هذا البلد، وأخلصوا له، فرسخوا فى وجداننا قيمته وقيمه وسيدوها على ما عاداه من بلاد، وليكن عنوان هذا الحفل هو «مصر مبتنساش أحبابها» لنستعيد مصر التى فى خاطرنا ولو لحين، ولنتناسى ما نمر به من مآسٍ، ولنستعين بعظمة الماضى على تحديات الحاضر، فقد بعد الوقت، واشتاقت مصر وأبناؤها إلى رؤية وديع الصافى ونجاح سلام وفيروز وفايدة كامل، ولعلها ستكون مناسبة طيبة لتكريم أسماء الراحلين العظماء، أمثال محمد عبدالوهاب، وأم كلثوم، وعبدالحليم حافظ، ووردة، وسعاد محمد، وعليا، فما أعرفه أن مصر العظيمة لا تنسى أحبابها، أما مصر المزيفة التى انتفضنا عليها فهى التى أحوجتنى إلى التذكير بقيمة وقامة هؤلاء الأعلام.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الفنان
نراك فى عيد الفن
عدد الردود 0
بواسطة:
جمال عبد الناصر
هذا فقط في حالة إنتصارنا
عدد الردود 0
بواسطة:
دعاء
تفوت عليكي المحن
عدد الردود 0
بواسطة:
أبو الكرم
عايزنا نرجع زي زمان