برلين لا بروكسل هى التى ستقرر مصير منطقة اليورو المتداعية، لأن قوة اقتصاد ألمانيا ومكانتها كأكبر ممول للاتحاد الأوروبى تمنحانها عملياً حق الاعتراض على قرارات رئيسية.
لذلك من المدهش، أن تجد أن الهاجس الرئيسى فى أروقة الحكم فى ألمانيا ليس هو أن كانت اليونان ستلتزم بوعود الإصلاح ولا إن كانت أسبانيا ستطلب مساعدة إنقاذ أوروبية.
باعتبارها ثالث أكبر دولة مصدرة فى العالم فإن خشية ألمانيا من أن تفقد الصين شهيتها لاستيراد الآلات والسيارات الألمانية أو بشأن ما سيتعين على المصانع الألمانية الشهيرة إنتاجه فى 2030 أكبر بكثير من قلقها بشأن اليونان أو أسبانيا.
ويهيمن الحضور السياسى المتزايد للمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل على المسرح فى ألمانيا، وقبل أقل من عام على الانتخابات الاتحادية يبدو أنها لا تقهر.
تحكم ميركل، التى صنفتها مجلة فوربس على رأس قائمة أكثر النساء نفوذاً فى العالم، ألمانيا منذ 2005 بمزيج من المناورات السياسية والصرامة والتصميم والإحساس بهموم المواطن الألمانى العادى.
وأثار رفض ميركل لتبنى حلول جريئة وشاملة لأزمة منطقة اليورو من البداية غضب بعض المنتقدين خارج ألمانيا، لكن هذا الرفض ينسجم تماماً فى الداخل مع ميل الألمان للحذر والتأنى والاقتصاد فى الإنفاق والجد فى العمل.
وقال مسؤول حكومى كبير "دول جنوب أوروبا تواجه موقفا كالذى واجهته بالمدرسة، كنت فى مدرسة جيدة وللأسف وجدت أن الطلبة الآخرين أكثر براعة منى فى بعض المواد الدراسية لذا كان على العمل بجد أكبر، كان من الممكن أن انتقل لمدرسة أخرى لكننى أردت البقاء فى تلك المدرسة ولذلك عملت بجد أكبر".
دفعت ميركل منطقة اليورو إلى الحافة فى وقت سابق هذا العام حينما رفضت مقترحات بأن تشترك الحكومات الأوروبية فى ضمان الاقتراض الحكومى وودائع البنوك، لكنها هدأت روع الأسواق فى الأسابيع الماضية بالتخلى عن معارضتها لشراء المركزى الأوروبى سندات الدول المعرضة للخطر فى جنوب أوروبا بهدف تقليل تكلفة الاقتراض شريطة أن توافق تلك الدول على إصلاح اقتصادياتها.
وقال مايكل ناومان، وهو صحفى وناشر ووزير سابق ينتمى للحزب الديمقراطى الاجتماعى "ما نقوله الآن هو أننا سنلقى لك طوق النجاة لكننا لن نجذبك خارج المياه إلى أن نرى منك محاولات للسباحة".
هذا "التضامن المشروط" مع جيران ألمانيا يروق لشعب يخشى الفاتورة النهائية لإنقاذ منطقة اليورو، لا يريد الألمان أن يصبح تفوقهم الاقتصادى الذى كافحوا من أجله عرضة للخطر بسبب ما يعتبرونه تهورا وتسيبا فى الإنفاق من دول مجاورة لم تقم بالإصلاح الاقتصادى المطلوب كما فعلت ألمانيا فى وقت سابق من القرن الحالى.
وقال سفير فى برلين "سر نجاح ألمانيا هو الطريقة التى تصور بها نفسها كنصير دافع الضرائب الألمانى فلا توافق إلا بصعوبة على اتفاقات إنقاذ منطقة اليورو وتفعل ذلك فى اللحظات الأخيرة وهى مكرهة".
وفى الوقت الذى تناقش فيه دول أوروبية أخرى مسألة السماح ببقاء اليونان فى منطقة اليورو بعدما أخفقت فى تحقيق أهداف خفض الإنفاق وخصخصة أصول الدولة وتحرير اقتصادها فإن المسئولين فى برلين يقولون إن ألمانيا قررت بالفعل فى صمت أن تسمح لأثينا بالبقاء.
وقال مسؤول "قبل ستة أشهر كانت المستشارة ميركل تميل لإخراج اليونان من منطقة اليورو لكن ليس الآن حتى بالرغم من أن مصداقيتها تكاد تتلاشى".
"لو أردت أن تعرف السبب انظر إلى شمال أفريقيا وشرق المتوسط. فى ضوء كل هذه الأحداث الجارية .. من يريد لدولة عضو فى حلف شمال الأطلسى على الحدود الجنوبية الغربية للاتحاد الأوروبى أن تتحول لدولة فاشلة؟"
وفى كل الأحوال لا توجد معارضة تذكر لسياسة ميركل تجاه أوروبا فى دولة تعتبر الموالاة القوية لأوروبا فيها أحد أسس العقيدة السياسية. وقال سفير آخر "لا يمكننى تصور أن يستطيع تحالف بين الحزب الديمقراطى الاجتماعى وحزب الخضر أن يفعل أى شيء بطريقة مغايرة لما تقوم به.
"كل الأحزاب الرئيسية تؤدى إستراتيجيتها"، ويشمل ذلك حزب الخضر الألمانى، وربما يشعر المراقبون الأجانب الذين يتذكرون المتعصبين المعادين للمؤسسة الحاكمة فى بون فى الثمانينيات لو جمعهم لقاء مع قيادات حزب الخضر الحالية من أصحاب الملابس الأنيقة الذين يتحدثون بأسلوب لطيف ويبدون اهتماماً بالسلطة بدلاً من الاحتجاج، وانتقلت راية التعصب إلى حزب اليسار، وهو خليفة الحزب الشيوعى بألمانيا الشرقية.
وتقول سارة فاجنكنيشت نائبة رئيس الحزب "تتمتع ميركل بشعبية كبيرة، لأنه لا بديل لها باستثناء حزب اليسار"، "الحزب الديمقراطى الاجتماعى يدور فى فلكها بإخلاص ويوافق على كل أفكارها... لا أحد سوانا يعارض سياسة ميركل الأوروبية على الإطلاق."
وتعارض فاجنكنيشت إنقاذ منطقة اليورو لأنها تقول إن برامج الإنقاذ تصب فى مصلحة المصرفيين والأغنياء وتضر بالفقراء والعاطلين، لكن حزبها لم يحصل فى استطلاعات الرأى سوى على أربعة بالمئة وهى نتيجة تعزوها إلى صراع داخلى مستمر منذ فترة. ويقول آخرون إن ألمانيا تتمتع برخاء لا يسمح بازدهار حزب يسارى متشدد.
لكن الخطر الأكبر الذى يلوح فى الأفق أمام ميركل هو خطر اقتصادى وليس سياسيا فالاقتصاد الألمانى يتباطأ وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية أن يعانى من ركود طفيف. إلا أنه لا احد يتوقع صعوبات فى المناخ الاقتصادى ما لم تلم بالصين نازلة أو تحدث كارثة خارجية أخرى.
وأجرى اتحاد الصناعة الألمانى مؤخرا مسحا لأعضائه، الذين يعملون بنسبة 84 بالمئة من الطاقة الإنتاجية، ووجد أنه لا يوجد من يتوقع تباطؤا حادا لكن رجال الصناعة يخشون التفاوت الكبير بين شمال منطقة اليورو الغنى وجنوبها المثقل بالديون والمتأثر بالأزمة.
وقال أحد رجال الصناعة البارزين "تحقيق الوحدة النقدية بحاجة لحد أدنى من التجانس... لو كانت الدول الأخرى لا تريد قطاعا تجاريا كبيرا به كثير من البضائع الصناعية فلن يمكن لمنطقة اليورو الاستمرار."
وأشار إلى أن جنوب أوروبا ربما ترغب فى تجربة استخدام عقاراتها غير المرغوب فيها التى جرى بناؤها خلال سنوات الطفرة لتقديم العلاج الطبى وتوفير خدمة علاجية أفضل للمرضى وأكثر ترشيدا للتكلفة من أى مكان آخر.
ويخشى آخرون فى برلين من قدرة منطقة اليورو اللانهائية على تفجير المفاجآت غير السارة.
وقال مسئول حكومى كبير "فى الوقت الحالى يبدو التكتل مثل مجموعة من عرائس لعبة البولينج... بعضها غير مستقر وهناك خطر أن تقع أحداها وتأخذ الآخرين معها، لكن لا نعرف أيها ستقع، ربما تكون اليونان أو إيطاليا أو اسبانيا، أوربما تأتى الضربة من دولة من الخارج مثل الصين".
لكن فى كل الأحوال ليست هناك مخاوف كبيرة فى الداخل حيث مازال الاستقرار السياسى والرخاء الاقتصادى وواحد من أعلى مستويات المعيشة فى العالم قائما بالرغم من أن دولا أوروبية أخرى على حافة الهاوية.
وفى ظل هذا الوضع السياسى والاقتصادى الداخلى السلس هل تشعر ألمانيا بالسعادة؟ النخبة فى برلين لا تطلق العنان بسهولة للشعور بالفرح. وقال احد الوزراء "ليس صحيحا أننا بلا مشاكل... لدينا أحد أسرع معدلات ارتفاع متوسط عمر السكان فى العالم ومن 2020 فصاعدا سنواجه صعوبة بسبب ذلك"، وهذه مشكلة لا يمكن لليونانيين حتى أن يحلموا بها.
المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة