حلم وأمنية للكثيرين أن يصبح مضيفًا أو مضيفة جوية، تسيطر عليك هذه الرغبة عندما تنظر إلى صورهم فى الإعلانات أو تراهم فى المطارات حاجة جميلة، المنظر والملابس الجذابة، وسرعان ما ينطق لسانك غابطًا وحاسدًا لهم: "يا بختهم بيسافروا بلاد كتيرة بدون وقوف فى الطوابير أمام السفارات" وبدون الوقوع فى حبال شركات وعصابات النصب والاحتيال على الراغبين فى السفر وبدون التعرض للغرق فى المراكب الشراعية المتجهة ليلاً لقبرص واليونان وإيطاليا، ما قضى على شباب جامعيين باعوا ما تملك أسرهم فى سبيل تحقيق أحلامهم وبناء مستقبلهم.
نعود لموضوعنا، المفروض أن هناك اختبارات لاختيار المضيفة بعد إتمام دراستها، ناهيك عن الشكل والطول والوزن والسن، منها تحدثها بأكثر من لغة أجنبية، هدوء الأعصاب، حسن التصرف فى المواقف الحرجة، الصبر، فهى عنوان للشركة، بل عنوان للبلد، وقد تكون سببًا فى زيادة أرباح الشركة بما تتركه من أثر لدى الراكب، لذا يجب أن تكون مستعدة نفسيًّا ومدربة لهذه الوظيفة ومتفهمة دورها وطبيعة عملها، ولا أحد يقلل ممَّا تعانيه المضيفة الجوية من مشقة السفر والخدمة والسهر فى الرحلات الطويلة على راحة الركاب.
وقرأت أن راتب المضيفة يبدأ من ٧٠٠٠ جنيه، رقم كبير ومحترم ويدفع أى رجل للارتباط بها والتقاتل للزواج بأى مضيفة جوية، ويعيش كالخليفة يقبض راتبه كمهندس أو محامٍ أو طبيب متخرج حديثًا بالمئات، وزوجته بالآلاف، و"الجوى" غير "الأرضى" يا سيدى.. موافق، قُل ٥٠٠٠، معك، قُل ٤٠٠٠، بالإضافة لبدل السكن وبدل المواصلات، اللهم لا حسد، كمان بدل طيران، يحسب بعدد ساعات الطيران، وكل شركة لها نظام خاص بها، إضافة إلى الزى الخاص والمأكل والمشرب، "بجد آخر بغددة ومش (عاجب) يعنى طاير لابس واكل شارب نايم قابض على حساب صاحب المخل يا خبيبى"، (رامية هلب) كما يقول الإسكندرانية.
انظر إلى ما نراه فى المقابل فى صالة المطار، تراهن حمامًا وعصافير ملونة بجوار بعضهن البعض وابتسامات بطول صلاح سالم، وما إن تركب وتجلس حتى تتغير الابتسامة من على الوجوه وتتحول إلى أرقام على الجباه، وأسهل هذه الأرقام (١١)، وأحيانًا (١١١) وتبدأ المضيفة شرحًا عمليًّا لإجراءات السلامة، وكثيرًا ما تُخطئ فى الاتجاهات، فالصوت يقول "يمين" وتشير هى لليسار، وأحيانًا لا وقت لهذا المشهد، فهى تشعر بالملل من كثرة أدائه، ولا تعطى له أهمية، وعلى المسافر لأول مرة عند المطبَّات الهوائية أو الطوارئ أن يتصرف بما يمليه عليه ضميره وعاداته وقت المصيبة، منهم من يصرخ، ومنهم من يجرى إلى غرفة القيادة "مجدعة" وتطوعًا منه لمساعدة الطيار، كما الميكروباص، ومنهم من يمسك بتلابيب المضيفة صارخًا: "يا نموت مع بعض يا نعيش مع بعض". ومنهم من يضرب بيديه على جدار الطائرة وشبابيكها وهو ينظر للخارج ويصرخ: "الحقونا".
وأثناء الرحلة تراها تذهب إلى أول الطائرة وتعود وتكرر هذا مرات ومرات، ولا تحمل فى يدها أى شىء يدل على أنها مشغولة بالعمل، ولكنها "مِخايلة كدابة" أو إقناع لنفسها بأنها تعمل وتستحق هذا الراتب وأكثر، وتداعب طفلاً وتبالغ فى ذلك حتى أن الأم تعطيها إياه، نظام "اشبعى بيه بس ارحمينى". ويأتى موعد الأكل كالعادة من سنوات طويلة أرز أصفر معجِّن وسلطة وزيتونة وشريحة فلفل دبلانة وقطعة خيار مظلومة، والحلو لا يتغير.. قطعة جاتوه شكولاتة سوداء، والسر فى الصندوق الأسود، يا ويل حضرتك لو طلبت "عيش" زيادة، يكون الرد نظرة ورفع حواجب، وَلاَ نظرة حماتك عند التعارف لإثبات شخصيتها وإعلان تسليمك لها.. أحلى حاجة "تشرب إيه" تقولها برجفة: سفن أب. تقولك: "خلص". وتقرر لك هى بسرعة، وتمد يدها لزجاجة الفانتا وتترك الزجاجة مفتوحة، وهكذا بعد ٣ كراسى، اللى عليه الدور يشرب ميه ملونة بدون صودا.
قوم حضرتك لدورة المياه، لا يوجد مناديل ولا صابون ولا حتى كلونيا ٥٥٥ الشبراويشى، وكأن دورة المياه ليست تابعة لهن، أى نعم، عمل من يقوم بتنظيف الطائرة بعد أى رحلة وقبلها، ولكن أثناء الرحلة مسئولية المضيفة توفير كل ما يحتاج إليه الراكب من خدمة وتلبيته، والإبلاغ عنه والعمل على توفيره.
تُلاحظ فعلاً أن "مفيش مضيفة بتدخل دورة المياه، اتضح انهم بيقرفوا وبيتعبوا نفسيًّا وبيقبضوا بالآلاااااف ومقدرين مصلحة البلد" ولديهن حس وطنى عالٍ وذكاء فى اختيار الوقت، عودة المدرسين والعمالة، للضغط على الحكومة، ويعملن على تحسين صورة مصر بكل الوسائل، وجذب السياح والمستثمرين إليها، لا يوقف عزمهن بكاء طفل ولا مرض شيخ عجوز ولا مريض قلب ولا معاناة سيدة حامل ولا تكدس وازدحام واختناق بشر ولا يهز مشاعرهن قلوب أمهات انزعجن لتأخر أولادهن عن موعد دراستهم.. مضيفات بطلات لا يوقف مسيرتهن خسائر بلغت الملايين لشركتهن وخسائر مثلها لرجال أعمال مصريين، كل هذا فى سبيل هدفهن، المزيد والمزيد، واضعات مصلحة البلد ومقدرات ظروفها فى هذا الوقت بالذات، هكذا تكون الوطنية ولكن العيب كل العيب على من لم يوضح لهن معنى الإضراب وكيفية الإضراب وتوقيت الإضراب، وعقوبة من يخالف بنود العقد المبرم من البداية.. العيب كل العيب على من لا يعمل على وجود صفين ثانٍ وثالث مدربين ومستعدين لمواجهة أى أزمة.. العيب كل العيب على من لم ينشئ أقل القليل "غرفة أو مجموعة عمل" للتوقع والتنبؤ بالمشاكل وسرعة مواجهتها وإيجاد البديل والتدرب على ذلك بسهولة ويسر، العيب كل العيب أنه لا يوجد الشخص الحازم ذو القرار الرشيد الحازم فى الوقت الحازم، العيب كل العيب أنهم لم يعلمونا منذ الصغر يعنى إيه إضراب، كيفية المطالبة بحقوقى أو بزيادة راتبى، لم يعلمونا يعنى إيه مصلحة بلدى قبل مصلحتى، لم يعلمونا أن نخلص ونتحمل فى عملنا قليلاً ونختار الوقت المناسب والطريقة المناسبة للتعبير عن مطالبنا دون الإضرار بالآخرين، لم يعلمونا أن هناك وظائف لا تتعلق بأصحابها فقط ولكنها لكل الناس فيجب أن أدرك وأعى وأقدر ما أقوم به، تخيل أن الممرضات، وهن يعملن ويسهرن ويخدمن ويعانين الكثير أكثر من المضيفات، قمن بإضراب ومات مريض بعد العملية قد يكون والدك أو أختك أيتها المضيفة، ماذا سيكون شعورك وإحساسك مع أن الممرضة تتقاضى مئات الجنيهات ولا تحصل على المزايا والبغددة الخاصة بك؟ العيب أنهم لم يعلمونا أن البطر حرام وأن الابتزاز والاستغلال حرام وأن أذى الآخرين حرام وأن الأنانية وتحقيق مصلحتى على حساب إضْرار من لا ذنب لهم حرام.. العيب أنهم لم يعلمونا أن العقد شريعة المتعاقدين طبيعة العمل هكذا والأجر هكذا وطريقة التوقف عن العمل وترك العمل هكذا، وعواقب مخالفة العقد هكذا، من البداية.. من صبر عشرات السنين ويأتى اليوم ليضغط على شركته أو مصنعه أو مدرسته أو مستشفاه ليحقق مصلحة ذاتية مستغلاًّ وظيفته.. يستحق أن يطير، وإذا كانت زوجتى مضيفة الطيران فلن تعود إلى الأرض فانصحونى أطيرها أم ماذا أفعل؟ قبل إجابتك اتخذت قرارى، فأنا أحب بلادى.
صورة أرشيفية