انتهت فعاليات الشهر الكريم، وانتشت جموع المسلمين بنسمات تلك النفحة الإيمانية، كلٌّ بقدر استطاعته وثباته، وانفض ذلك المولد من مسلسلاته، وانطوت صفحة برامجه الدينية والترفيهية والطبيخية، ليعود جمهور التليفزيون مجددًا، وبعد أكل الكعك، لذلك السيل الذى اعتادوه من الحوارات والتعليقات والمناقشات، بل وربما السباب والهباب فى برامجهم الحوارية اليومية، وحقيقةً لا أريد -كما يفعل بعض المثقفين والعقلاء للأسف - أن أُحمِّل الإعلام وزر هذا المشهد التنافرى وتلك الضبابية المحيطة بكل الأحداث والوقائع التى تداهمنا يوميًّا وبدون سابق إنذار، بل أتفق معك على أن هناك مِمَّن يعملون فى المهنة من يؤدى ذلك الدور ببراعة وكأنه مدرب عليه! ولن أستثنى من ذلك موقف المذيع الإخبارى اللامع بالتليفزيون المصرى الذى دغدغ مشاعرنا بعباراته الملهبة حين تحدث عن تماسك الرئيس مرسى، واصفًا موقفه خلال تشييع جثامين ضحايا مجزرة رفح، وذلك الفيض الذى يملأ قلبه إيمانًا وثباتًا يمنعانه من أن يظهر ألمه وتمزقه على شهداء الوطن، فيجذبك بصوته المتهدج ونبراته المحمومة التى تجعلك تُجهش بالبكاء، بل وتندفع مثلى لتأخذ التليفزيون فى حضنك، وتكتشف أخيرًا أن الرئيس كان يتابع الجنازة من أمام تليفزيونه هو الآخر!
ولكن على أى حال ربما ضعف بصر المذيع جراء جلوسه لسنوات طويلة أمام شاشة الأخبار جعلك تتقبل هذه "الاشتغالة" اللطيفة، بل وتلتمس له العذر الذى جعله يرى المشير فى صورة الرئيس، نظرًا للشبه الفظيع بينهما، والذى يشبه الشبه بين القلعة ونهر النيل!
رحم الله شهداءنا وأنزلهم الله منزلاً خيرًا مما كانوا عليه، وكل التمنيات لهم بالتوفيق فى حياتهم الجديدة، كما دعا لهم الرئيس!
لم يلفت ذلك المشهد انتباهى أكثر من موقف الفريق الذى خرج علينا أخيرًا وبعد طول انتظار يملأ سماء الفضائيات مجددًا بحواراته ومداخلاته الممتعة، ولكن فى ثوب آخر ربما لم نعتده، فقد فاجأنا سيادته بعد انقطاع طويل بسبب العمرة فى دبى - تقبل الله منه - بتصريحاته عن حق المصريين أخيرًا فى التظاهر السلمى والتعبير عن آرائهم، منتقدًا تلك الأحادية السياسية فى حكم الحزب الواحد، مؤكدًا باللفظ: "إنه ليس من الصحيح أن يمارس حزب واحد حقوقه السياسية ويتجاهل باقى القوى السياسية الأخرى!". ولا ينكر أحد شعوره بالارتياح وانحناء قامته أمام تلك الكلمات، لولا خروجها المفاجئ وفى هذا التوقيت، وبواسطة الفريق، الذى توحى لك ثقته فى نفسه وهو يدلى بتلك التصريحات بأنه أفنى شبابه الضائع خلف قضبان المعتقلات السياسية وليس برفقة زعماء الحزب المنحل الواحد طيلة ثلاثة عقود!!
ولم لا؟! فكل شىء جائز، حتى صداقة الدكتور توفيق للرئيس منذ 2002 حتى الآن، والتى فاجأنا بها فى مداخلة تليفونية له هو الآخر فى أحد البرامج، مؤكدًا أن خلافه مع الإخوان لا يمت بصلة لخلاف له يذكر مع سيادته، "على اعتبار أن الرئيس من أصول قبطية"! وأنه لم يصدر أبدًا.. أبدًا.. فتوى إهدار دمه، بل أيد قرار إحالة المشير والفريق للتقاعد باعتبارهما سبب البلاوى اللى كنا فيها، وأنه لا صحة لتصريحاته الأخيرة بشأن أحقية اليهود فى القدس والتى أعلنها فى أحد البرامج التليفزيونية، وأن الذى كان موجودًا فى الحلقة "دوبلير"!
وربما لو طالت المكالمة أكثر من ذلك لاكتشفت أنه – أصلاً - من شباب الثورة، وصُوِّر فوق الدبابة، وأصابه الخرطوش فى مناطق متفرقة من جسده!
يا حبيبى يا دكتور توفيق، كم نال السفهاء منك!
ولا تجعل العجب والاندهاش يتملكانك، ليس فقط لكونك معتادًا تلك التحولات العكاشية فى خطابات الرجل ومواقفه، لكن لأنك قد تلمس تلك التحولات من قبل أطراف أكثر أهمية وأعمق تأثيرًا، وأقصد على وجه التحديد موقف الجماعة وحزبها من قرض صندوق النقد الدولى الذى رفضته بشدة إبان طرحه من قبل الوزارتين المتعاقبتين على الثورة، ثم ترحيبها المتوقع بقرار الحكومة الأخير باللجوء إليه! بل وانقسام الجماعة السلفية بجبهتها وحزبها حول شبهة الحلال والحرام فيه، بحيث لجأ الإخوان ومن تبعهم للفتوى "بتاعة الشيخ اللى حلل فوائد القرض"، تاركين فتوى التحريم لوقت "عوزة"!! ثم التدليل على حكمة القرار إلى الحد الذى دفع أحدهم للقول: إن قرض الصندوق سوف يجلب لنا الخير والبركة. "على اعتبار أنه يتحدث عن صندوق السيد البدوى!
ربما كانت تلك المقتطفات كفيلة بأن ترفع ضغطك وتحرق دمك وتلهب بواسيرك ما يجعلك تعتصم بخصال شعرك إذا كنت لا يزال عندك شعر، أو يدفعك لأن تمسك بريموت التليفزيون فى قرار غير مدروس وتغير المحطة لمتابعة حلقة من حلقات الشيف شربينى، "أهو كله طبيخ".
على كل الأحوال لا يزال لدىَّ بديل أخير، هو أن أحول نظرى عن شاشة التليفزيون نهائيًّا لأتوجه إلى قِبلة "بكسر القاف" جديدة، وهى سماعة الراديو، وألقى بمسمعىَّ فى أحضان هذه الحنجرة الرخيمة، كم اشتقت لهذا المناخ الحالم بعيدًا عن المظاهرات والاعتصامات والإخوان وصندوقهم! وكم اشتاقت أذناى لسماع عبارات الحب التى يسكبها بلطف هذا الـ (أسامة منير)! وكم سولت لى نفسى أن أستمع لمكالمة من صوت منهار! وربما قد حانت الفرصة، فبعد رفض المتصلة ذكر اسمها وإلحاح الأخير على معرفة سنها، بدأت بسرد قصتها: "أسامة أنا بحب شاب بس اكتشفت إنه بيخونى، المشكلة مش فى كده، المشكلة إنه بطل يحبنى".
ولا أدرى إن كان جسدى لم يتحمل أثر الصدمة أم أن الشلل بدأ يتسرب رويدًا إلى أطرافى، ما جعلنى أعجز عن أن أدير زر الراديو لأخرسه تمامًا، على أى حال فقد علمت أن الله يستجيب الدعاء فى تلك الأيام المفترجة، فتوجهت بمنتهى صفاء النية داعيًا: "يا رب الكهربة تقطع".
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
رامى قنديل
الكاتب (النسخة الاصلية من بلال فضل)
عدد الردود 0
بواسطة:
mohamed ali
كلام زى الفل
عدد الردود 0
بواسطة:
د/هيثم
الحب في زمن الكوليرا!