لم يكن للاعب النرد فى يوم التاسع من أغسطس لعام 2008 أن يربح كما حدث فى عامى 1984 و1998، حينما توقف قلبه بعد عمليّة جراحية فيه، ولا أن يخسر الحياة أيضًا، مقابل ما ظفر منها ببقاء ما خطه قلمه من أشعار ما زالت حتى يومنا هذا تملأ صفحات الصحف ومواقع التواصل الاجتماعى مخلدة اسمه كما أراد لنفسه أن يكون مدينة الشعر:
عمَّ تبحث يا فتى فى زورق الأوديسة المكسور – عن جيش يهاجمنى فأهزمه، وأسال هل أصير مدينة الشعراء يومًا؟
ظل محمود درويش، والذى نمر اليوم بذكرى رحيله الرابعة يمثل حالة شعرية متفردة، تستحق التأمل مليًا فى سياقاتها الإبداعية والنصية، وكانت حياته مأزقًا وجوديًا محكومًا بتفاصيل حالته الشعرية، حيث عاش موزعًا بين الأزمنة والأمكنة والقصائد، إذ ينبت فى بيئة عفوية لا تكاد ترشحه لأى مستقبل، يولد فى قرية "البروة" من قضاء مدينة عكا فى الجليل الغربى بفلسطين لأسرة ريفية بسيطة، أب مزارع، وأم قروية، وسبعة إخوة من ذكور وإناث، يهزهم زلزال النكبة عام 1948، فينزحون قسرًا عبر الحدود إلى القرى اللبنانية، لكنهم لا يلبثون أن يدركوا قسوة الاقتلاع وضرورة التشبث بالأرض فيعودون متسللين إلى موطنهم، حيث يجدون قريتهم وقد محيت من على الأرض التى هودت وأصبحت أمكنة ميسجة بالأسلاك ومسماة بكلماتٍ عبرية غازية.
يحكى "درويش" بأسى قصة الهروب، فيقول إنه كان حينئذ فى السادسة من عمره، يلتبس الأمر على الكتاب فيحسبون أنه ولد عام 1942، لكن مؤرخه الأول "رجاء النقاش" – كما يوضح الناقد الدكتور صلاح فضل – يواجهه بهذا اللبس، فيعترف بأنه ولد عام 1941 لكن الأمر اختلط عليه، ظل الالتباس عالقًا بوضعه فى الداخل، حيث يعيش بلا هوية، يكمل تعليمه الثانوى، فحسب بمناهج تتراوح بين اللغتين العربية والعبرية، ثم تضيق به القرية فيرحل إلى مدينة حيفا عام 1960، فينضم هناك إلى الحزب الشيوعى الإسرائيلى، المؤسسة الوحيدة التى تعترف بحقوق السكان الأصليين فى المواطنة، والتى تتيح له العمل بالصحافة والكتابة والشعر، فيكتب بالعربية فى جريدة "الاتحاد"، ويرأس وهو ما زال شابًا تحرير مجلة "الجديد" لكنه يعانى مع رفاقه وطأة السجن والاعتقال والإقامة الجبرية.
وتنبثق فى هذا العقد الثالث من عمره نافورة الشعر فى قلبه وعلى لسانه، فيصل رذاذها بفضل غسان كنفانى إلى القاهرة، فتحتفى به مصر وبرفيقيه سميح القاسم وتوفيق زياد، ويبشر بهم رجاء النقاش ويكتب عنهم بوله من يتلمس الأمل ويقاوم الإحباط، يبرز صوت "درويش" من بينهم صافيًا مدهشًا فى تصويبه المحكم نحو "دائرة الهوية"، فيتم تدشينه عن بعد زعيمًا لهؤلاء الشباب، لكن القلق الذى يركبه "كأن الريح تحته" على حد تعبير المتنبى الذى اتخذه "درويش" شعارًا مطبوعًا على ديوانه، يحمله إلى السفر بعيدًا، يحاول الذهاب إلى فرنسا فتحول أوراقه دون ذلك، فهى بطاقة إسرائيلية لا تنسب له جنسية محددة، فيكرر المحاولة بنجاح ويذهب إلى موسكو للدراسة، فيظل بها عامًا وبعض عام 1970، لكنه لا يلبث أن يدرك بنزوعه العربى العارم وتوقه الشديد للتحقق الإبداعى أن ما حسبه جنة المهجر لا تقدم له سلافة الشهرة ولا حوريات المجد، كان يهفو للعاصمة العربية التى تربى على وهج ثقافتها.
ألقى بعصاه فى القاهرة عام 1971 مقررًا عدم العودة إلى معتقله الأرض المحتلة، كان دخوله إلى القاهرة كما يقول أهم الأحداث فى حياته الشخصية، "فتنت بكونى فى مدينة عربية، أسماء شوارعها عربية، والناس فيها يتكلمون بالعربية، وجدت نفسى، أسكن النصوص الأدبية التى كنت أعجب، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية".
التقى "درويش" بكبار الكُتَّاب المصريين، بل انضم إليهم فى نادى "كُتَّاب الأهرام" وهو لا يزال فى الثلاثين من عمره، فرافق توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وبنت الشاطئ، وصادق الشعراء الذين كان يقرأ لهم ويتأثر بهم مثل صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطى حجازى، وأمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودى، واحتفى به كبار النقاد، وتمت كما يقول "ملامح أهم تحول فى تجربته الشعرية فى مدى عامين"، لكن مقامه فى القاهرة لم يمتد إلى أبعد من ذلك، كان عصر السادات قد بدأ يزحف إلى شوارعها، فركب "درويش" مرة أخرى ريح القلق وذهب ليقضى عقدًا كاملاً من السنوات فى باريس الشرق وعاصمة الكتاب "بيروت"، لكن جذوة حرائق الحروب الأهلية والعربية كانت قد أضرمت فيها، تحمل "درويش" ضراوة العيش فى أتون صراعاتها، وارتبط بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأصبح رئيس تحرير مجلة "شئون فلسطينية" ثم أوكل إليه "ياسر عرفات" تأسيس مجلة ثقافية رفيعة هى "الكرمل" وخيره فى العاصمة التى يريد أن يصدرها منها أو يقيم فيها، فترك "بيروت" عام 1981 ليقيم فى عاصمة النور الأوروبية "باريس" ويصدر المجلة من قبرص، مترددًا على تونس، حيث أصبح الشاعر الأثير عند الزعيم الكبير.
ومن ثم تم اختيار "درويش" عام 1987 عضوًا باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير – وأسندت إليه على كره فيما يبدو – رئاسة المجلس الأعلى للثقافة والإعلام، لكنه لم يلبث أن استقال من هذه المناصب، بل ورفض تولى وزارة الثقافة فى السلطة عقب توقيع اتفاقية "أوسلو"، فكانت الحالة الشعرية بالنسبة إليه هى المدار الذى يشبع قلقه ويداوى جراح روحه ويشعل جذوة إبداعه.
وعلى الرغم من اقترابه الشديد من الزعيم التاريخى "ياسر عرفات"، بل وتحريره بالمشاركة أو منفردًا – كما يقول صلاح فصل – لبعض خطبه المهمة فى المحافل الدولية وإطلاقه لبعض الشعارات التى دخلت ذاكرة التاريخ مثل "لا تدعوا غص الزيتون يسقط من يدى"، بالرغم من ذلك فقد ظل منذ بداية التسعينات حتى رحيله يتنقل بين بيته فى عمان ورام الله، فى حالة من القلق والحصار، تتراوح بين الصحة والمرض، بين الرضا والرفض، بين الإقامة والترحال، واضعًا نصب عينه دائمًا تربية وعيه الشعرى بالواقع، وتنمية قدرته الإبداعية بالقراءة والتأمل لهذا الولع المزمن بالتجاوز واللهفة إلى ممارسة التحولات الدائبة فى أسلوبه وتقنياته ورؤيته، بعد أن كان قد نجح فى التخلص مما يعوق حركته الإبداعية.
موضوعات متعلقة::
◄درويش فى القاهرة: قضى عامين مع محفوظ وإدريس وعبد الصبور والأبنودى