محمود درويش برؤية نقدية.. حالة شعرية متفردة فى الحداثة

الخميس، 09 أغسطس 2012 03:22 م
محمود درويش برؤية نقدية.. حالة شعرية متفردة فى الحداثة غلاف كتاب صلاح فضل
كتب بلال رمضان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى كتابه الصادر ضمن سلسلة إصدارات مجلة دبى الثقافية، عام 2009، يؤكد الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل، رئيس الجمعية المصرية للنقد الأدبى، على أن الحديث عن الشعرية بمنطلق النقد الحديث لا يحتاج إلى مقدمة، وخاصةً فى حالة الشاعر الكبير الراحل محمود درويش (1941 – 2008) لأنه لا يزال بعد رحيله الموجع يتسرب كالضوء إلى صفحات الصحف العربية، ويمتد حضوره الباهر إلى جوف الغياب، على حد تعبير، وما زال "درويش" يتجذر بعمق أكثر فى الوجدان العربى بأكلمه، فيكتسب يقين الخلود وهو يتراءى كالطيف الشفيف فى أجواء العواصم التى طالما شهدت مواسمه وأنداءه.

ويؤكد "فضل" فى كتابه الذى صدرت طبعته الثانية عن الدار المصرية اللبنانية فى القاهرة، على أن "درويش" يظل حالة شعرية متفردة، تستحق التأمل مليًا فى سياقاتها الإبداعية والنصية، حيث تظل حداثته التعبيرية المتميزة كامنة فى قدرته على صياغة اللفتات التعبيرية الخاصة والإسنادات المجازية الخارقة، والقادرة على تخليق حالة التوتر وقلق المعنى مع بلورة الرؤية، كما تتمثل فى استثارة لحظات الوجد وحالات التأمل واستحضار المشاهد البصرية المثرية للمتخيل الشعرى والكفيلة بنقل حالة العدوى إلى المتلقى.

وكل دواوين "درويش" تقدم لنا عشرات النماذج الناجحة لهذه التقنية الأسلوبية الخاصة، لكننا نكتفى فى هذا السياق بنموذجين، أحدهما من آخر أعماله قبل النثرية فى ديوان "كزهر اللوز أو بعد"، والثانى من آخر قصائده الوداعية "لاعب النرد"، حيث غلب عليه الطابع السردى ممتزجًا بالأسلوب الغنائى، وقاوم الحس المأساوى الناجح بالحياة والشعور الطاغى بحضرة الغياب والموت، ليتحول إلى تشعير لحظات الحياة مع ارتفاع نبرة الجذل والفرحة المضادة لما يبدو على سطح الواقع العربى الراهن، فيقول مثلاً فى قصيدته عن "المقهى والجريدة" معيدًا تجربة نزار قبانى فى مقاربة قصيدة الشاعر الفرنسى جاك بريفير وإهدائها إليها، لكن "درويش" يتناول الموضوع بمنطقه المتميز قائلاً:
"مقهى، وأنت مع الجريدة جالس
لا، لست وحدك، نصف كأسك فارغ
والشمس تملأ نصفها الثانى..
ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين
ولا تُرى
(إحدى صفات الغيب تلك / ترى ولكن لا تُرى)
كم أنت حر أيها المنسى فى المقهي،
فلا أحد يرى أثر الكمنجة فيك
لا أحد يحملق فى حضورك أو غيابك
أو يدقق فى ضبابك
/ إن نظرت إلى فتاة وانكسرت أمامها
كم أنت حر فى إدارة شأنك الشخصى
/ فاصنع بنفسك ما تشاء...
فأنت منسى وحر فى خيالك
/ ليس لاسمك أو لوجهك هاهنا عمل ضرورى"

وإذا كان شعر "درويش" سيظل كنزًا للقراءات المتتالية، يرى فيه كل جيل من الشعراء والقراء ومضات بارقة تشير للمستقبل، فإنه سيظل شاهدًا على توهج الشعرية كلما تخففت من الأيديولوجيا وأخلصت التصويب نحو أرقى أفق ترتفع إليه الإنسانية لتصبح رمزًا وأسطورةً وشهادة على قدرة الإبداع الخلاق على تشكيل الحياة.

وفى الثانى، والمعنون بـ"عالم من التحولات" يربط "فضل" بين حديثٍ نبوى ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذى يقول فيه "أنا مدينة العلم وعلىُّ بابها"، ليتساءل قائلاً: لا ندرى إن كان "درويش" شاعرنا، قد التقط فى صباه تلك الكلمات، وامتزجت عنده بالقراءات الملحمية أم لا، إذ يكتب فى قصيدته "مديح الظل العالى" وهى تستحضر فى عنوانها المدائح النبوية والباب العالى العثمانى معاً، قائلاً:
عمَّ تبحث يا فتى فى زورق الأوديسة المكسور –
- عن جيش يهاجمنى فأهزمه، وأسال هل أصير
مدينة الشعراء يومًا؟
أى أنه – كما يوضح فضل – يريد أن يقوم شعريًا بدور المدينة وبابها، مهمة محمد وعلى فى الآن ذاته، فالأخير هو الذى كان يهزم الجيوش بمفرده، هكذا أسطرته المخيلة الإسلامية فى المشرق والمغرب، وبدلاً من أن يصبح مدينة العلم يطمح شاعرنا لاحتواء كل الشعر فى جوفه، لتمثيل جميع أساليبه، تجريبها والإبحار بها، يريد أن أن يصبح مكانًا لجميع الشعراء، والمكان هو بيت التاريخ، والتاريخ صناعة اللغة التى هى أخطر مقتنيات الإنسان.

ويؤكد "فضل" على أن "درويش" هو شاعر القضية الأخطر فى التاريخ العربى، وهو مع ذلك شاعر حداثى، وهذه مفارقة لافتة، لأن أبرز ملمح فى شعر الحداثة، هو غياب الموضوع وعدم التحديد وتشتيت الدلالة، الحداثة تكمن فى فتح النصوص الشعرية لمختلف القراءات، دون الإمساك بالمعنى متلبسًا بالعبارة، و"درويش" يسبح فى فلك معروف مسبقًا، مما يجعل حداثته من نوع خاص يقترب من الشعر التعبيرى الملموس، ولكى نرى طرفًا من تقنيات التعبير لديه الماثلة فى كل نصوصه؛ يمكن أن نتأمل مقطعًا من "حالة حصار" يهديه إلى حارس:
"إلى حارس":
سأعلمك الانتظار
على باب موتى المؤجل
تمهل، تمهل
لعلك تسأم منى
وترفع ظلك عنى
وتدخل ليلك حرًا
بلا شجي

"إلى حارس آخر":
سـأعلمك الانتظار
على باب مقهى
فتسمع دقات قلبك أبطأ، أسرع
قد تعرف القشعريرة مثلي
تمهل
لعلك مثلى تصفّر لحنًا يهاجر
أندلسى الأسى، فارسى المدار
فيوجعك الياسمين وترحل.

وتتمثل الحداثة هنا فى مجموعة من اللفتات التعبيرية والإسنادات المجازية، التى تخلق توتر الحالة الشعرية وقلق المعنى العادى المألوف، مثل الانتظار على باب الموت المؤجل، وترفع ظلك عنى، وتدخل ليلك حرًا، كما تتمثل أيضًا فى المشهد الثانى المستنفر لحساسية الإنسانية، والمستثير للحظات الوجد، فى قلب الحارس العدو، حتى يعرف القشعريرة ويصفّر لحناً مشحونًا بأسى التاريخ المشترك لعهد التعايش الذهبى فى الأندلس، والتمازج الحلو فى بلاد فارس، مما يجعل الياسمين الغض النادى، يوجعه فى يقظة الضمير وينتهى به إلى الرحيل، هذا التمثيل المرهف لخلجات الروح تطارده العبارة الشعرية، وهى توظف أقصى إمكاناتها فى الإسناد، والسرد والتصوير بشكل لم تعهده الشعرية التقليدية.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة