"إن الإيديولوجية الصهيونية التى استخدمت ضد شعبنا لاستيطان فلسطين بالغزاة الوافدين من الغرب، استخدمت فى الوقت ذاته لاقتلاع اليهود من جورهم فى أوطانهم المختلفة ولتغريبهم عن الأمم".. بمثل هذه العبارات المضيئة التى تدحض الاستيطان الصهيونى واغتصاب الأراضى الفلسطينية، واجه الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش، أعضاء الجمعية العامة للأمام المتحدة فى الثالث عشر من نوفمبر لعام 1974، من خلال الخطاب الذى كتبه للزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات.
وفى هذا الخطاب الذى اشتهر بعبارة "لقد جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية ثائر..فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدى.. الحرب تندلع من فلسطين والسلام يبدأ من فلسطين"، وفى هذا الخطاب الذى كتبه "درويش" لـ"عرفات"، والذى نقتطف منه بعض الفقرات، تتجلى قدرته الإبداعية والفكرية على مواجهة أعتى قوات الاستيطان ومواجهتها بالفكر، ودحض المزاعم الإسرائيلية.
يقول "درويش": إن لهذا العدو الذى نواجهه سجلاً حافلاً ضد اليهود أنفسهم فهناك فى داخل الكيان الصهيونى تمييز عنصرى بشع ضد اليهود الشرقيين. وإذا كنا ندين بكل ما أوتينا من قوة مذابح اليهود تحت الحكم النازى، فإن القادة الصهاينة كما يبدو أن همهم الأكبر حينذاك هو استغلالها لتحقيق الهجرة إلى فلسطين.
إن الذين ينعتون ثورتنا بالإرهاب، إنما يفعلون ذلك لكى يضللوا الرأى العام العالمى عن رؤية الحقائق، من روية وجهنا الذى يمثل جانب العدل والدفاع عن النفس ووجههم الذى يمثل جانب الظلم والإرهاب.
ويشير "درويش" على لسان "عرفات" إلى ما قامت به الحركة الصهيونية متحالفة مع الاستعمار العالمى فى غزوها لبلادنا، فيوجز ثمة حقائق منها أن عدد سكان فلسطين عند بداية الغزوة عام 1881 وقبل قدوم أول موجة استيطان كان حوالى نصف مليون نسمة كلهم من العرب، مسلمين ومسيحيين ومنهم حوالى عشرون ألفاً من يهود فلسطين يعيشون جميعاً فى كنف التسامح الدينى الذى اشتهرت به حضارتنا، وكانت فلسطين أرضاً خضراء معمورة بشعبها العربى الذى يبنى الحياة فى وطنه ويغنى ثقافته.
وعمدت الحركة الصهيونية إلى تهجير حوالى خمسين ألف يهودى أوروبى بين عامى 1882 و1917 لاجئة إلى شتى أساليب الاحتيال لتغرسهم فى أرضنا. ونجحت فى الحصول على تصريح بلفور من بريطانيا، فجسد التصريح حقيقة التحالف الصهيونى الاستعمارى، وعبر هذا التصريح عن مدى ظلم الاستعمار للشعوب، حيث أعطت بريطانيا، وهى لا تملك وعداً للحركة الصهيونية، وهى لا تستحق. وخذلت عصبة الأمم بتركيبها القديم شعبنا العربى وتبخرت وعود ومبادئ "ويلسون" فى الهواء، وفرضت علينا قسراً الاستعمار البريطانى بصورة الانتداب، وتعهد صك الانتداب الذى أصدرته عصبة الأمم المتحدة صراحة بالتمكين للغزوة الصهيونية من أرضنا.
وعلى مدى ثلاثين عاماً بعد صدور تصريح بلفور نجحت الحركة الصهيونية مع حليفها الاستعمارى فى تهجير مزيد من يهود أوروبا واغتصاب أراضى عرب فلسطين. وهكذا أصبح عدد اليهود فى فلسطين عام 1947 حوالى ستمائة ألف يملكون أقل من 6% من أراضى فلسطين الخصبة. بينما كان تعداد عرب فلسطين حوالى مليون وربع المليون نسمة.
وبفعل تواطؤ الدولة المنتدبة مع الحركة الصهيونية ودعم الولايات المتحدة لهما، صدر عن هذه الجمعية وهى فى بداية عهدها التوصية بتقسيم وطننا فلسطين فى 29 نوفمبر 1947 وسط تحركات مريبة وضغوط شديدة، فقسمت ما لا يجوز لها أن تقسم: أرض الوطن الواحد، وحين رفضنا ذلك القرار لأننا مثل أم الطفل الحقيقية التى رفضت أن يقسم سليمان طفلها حين نازعتها عليه امرأة أخرى. ومع ذلك فقد منح قرار التقسيم المستوطنين الاستعماريين 54% من أرض فلسطين.
وكأن ذلك لم يكن كافياً بالنسبة إليهم، فشنوا حرباً إرهابية ضد السكان المدنيين العرب، واحتلوا 81% من مجموع مساحة فلسطين، وشردوا مليون عربى، مغتصبين بذلك 524 قرية ومدينة عربية، ودمروا منها 385 مدينة وقرية تدميراً كاملاً محاها من الوجود، وحيث فعلوا ذلك أقاموا مستوطناتهم ومستعمراتهم فوق الأنقاض وبين بساتيننا وحقولنا.
ويقول "درويش" إن الجانب الذى يقف فيه حامل السلاح هو الذى يميز بين الثائر والإرهابى، فمن يقف فى جانب قضية عادل، ومن يقاتل من أجل حرية وطنه واستقلاله ضد الغزو والاحتلال والاستعمار، لا يمكن أن تنطبق عليه بأى شكل من الأشكال صفة إرهابى، وإلا اعتبر الشعب الأمريكى، حين حمل السلاح ضد الاستعمار البريطانى إرهابياً، واعتبرت المقاومة الأوروبية ضد النازية إرهاباً، واعتبر نضال شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكيا اللاتينية إرهاباً. لا يا سيدى الرئيس إن هذا هو الكفاح العادل والمشروع، والذى يكرسه ميثاق هيئة الأمم والإعلان العالمى لحقوق الإنسان. أما الذى يحمل السلاح ضد القضايا العادلة.. والذى يشن الحرب لاحتلال أوطان الآخرين ونهبها واستغلالها واستعمارهم، فذلك هو الإرهابى، وأعماله هى التى يجب أن تدان وينسحب عليه لقب مجرم حرب ذلك أن عدالة القضية هى التى تقرر عدالة السلاح.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة