"العدالة الانتقالية".. مفهوم حديث لعملية تتم فى المجتمعات التى قامت فيها ثورات بعد فترة طويلة من المشاكل السياسية والاجتماعية، انقسم فيها المجتمع إلى أقسام اضطهد بعضها بعضًا.. وطبقًا لهذا المفهوم فإن مجتمع ما بعد التغيير يعمل على طى صفحة الماضى لإعادة لم شمل المجتمع حتى يكون قادرًا على بدء صفحة جديدة ينسى فيها خلافاته السابقة التى مزقت وحدته الوطنية، ويبدأ فيها عصر جديد يقوم على المشاركة والمواطنة والمساواة.. وتتلخص آلية العدالة الانتقالية فى شقين، هما رد الحقوق والمصالحة.. فحسب ذلك المفهوم يكون على الدولة الجديدة سن قوانين جديدة تستطيع من خلالها محاكمة كل من تورط فى جرائم الماضى، ويكون محور المحاكمة هو اعتراف من أجرموا بجرائمهم، وطلب العفو من الضحايا وأهليهم، وأن يكون أهل الضحايا مستعدين للعفو والمسامحة، ويكون القانون - فى اللحظة نفسها قادرًا على رد الحقوق ومعاقبة المذنبين - فيتحقق مفهوم المصالحة القائمة على العدل.. وبهذا المفهوم يستطيع المجتمع الجديد طى صفحة الماضى والاتجاه إلى الأمام دون ضغائن لخلق مستقبل مشترك.
ويسطع مفهوم العدالة الانتقالية أكثر ما يسطع فى بلادٍ تعرض بعض أهلها لاضطهاد عرقى أو دينى. ويبقى المثل الأشهر فى ذلك هو دولة جنوب أفريقيا، فبعد قرون من الاضطهاد العرقى والتفرقة العنصرية من جانب البيض ضد السود بها خرج الزعيم نيلسون مانديلا إلى العالم من سجنه ليصبح أول رئيس أسود لدولة طالما عانى السود فيها بسبب لون بشرتهم، فتم إقصاؤهم عن كل مناحى الحياة، وغبن حقوقهم فى كل ركن من أركان بلدهم، وكان ذلك يتحقق من خلال قوانين لا تستحى أن تنظر بدونية لمواطن أصيل طالما عاش فى هذا الوطن.. يخرج نيلسون مانديلا برغبة صادقة فى بناء وطن جديد دون الحاجة لهدم وطن سابق، أراد مانديلا أن يخلق عالمًا متسامحًا ومتصالحًا مع نفسه، ولم يرد الانتقام والتشفى.. كان مفهوم العدالة الانتقالية بالنسبة له هو خطوة أولى نحو مستقبل جديد وليس خطوة أولى نحو الماضى ليضيع وقته فى الانتقام ممن سجنوه لثلاثة عقود، مستغلاًّ فى ذلك معاناة الجماهير وآلامهم من التفرقة العنصرية، كى ينتقم لنفسه ممن عذبوه.. استطاع مانديلا أن يترفع عن دونية الأنانية ليصنع لنفسه زعامة فاسدة يكون ثمنها دماء أبناء الوطن الواحد.. وقف مانديلا فى تلك اللحظة ليثبت للعالم أن التاريخ يصنعه الفلاسفة إذا كانوا يقفون على أرض الواقع مع الآخرين.
إن مفهوم العدالة الانتقالية سيتحول إلى يوتوبيا غير قابلة للتحقيق إذا جعلناه سوطًا يوضع فى أيدى الجلادين لكى يسفكوا به دماء المسئولين الذين حكموا فى الماضى إرضاء لشهوة الانتقام لدى جمهور تم خداعه باسم التغيير فأصبح قلبه معلقًا بالانتقام والتشفى، وليس بالتحرك نحو المستقبل.. العدالة الانتقالية لا تكون بقوانين استثنائية تحاول إقصاء كل من وُلِد فى الماضى وإنما تنشئ قوانين لجلب الحقوق ورد المظالم، بالتوازى مع ظهور مكثف لفلاسفة الاجتماع وعلماء النفس - غير المسيسين - بلا أهواء ولا انتماءات حزبية ولا رغبة فى البقاء تحت الأضواء أطول فترة ممكنة، وبلا شهوة الشهرة والقفز من دور العالم إلى دور السياسى الانتهازى، وبلا رغبة فى لعب دور الزعيم، كل ذلك سيؤدى بالعالم والفيلسوف إلى لعب الدور الأعظم فى التغيير.. فالمواطن يقبل الكلمة التى تعيد له الحق والتى تجعل منه إنسانًا متصالحًا مع نفسه ومع ماضيه من أجل الوطن.. إن التصدى لمفهوم العدالة الانتقالية من جانب السياسيين أصحاب المصالح فقط، دون العلماء والفلاسفة، لهو الخطيئة الكبرى فى طريق الخطوة الأولى نحو مستقبل ما بعد التغيير.
طه أمين يكتب: العدالة الانتقالية.. يوتوبيا الثورات الحديثة
السبت، 04 أغسطس 2012 12:10 م