"الحياة فصول ولكل فصل مذاقه.. وطوبى لمن أحب الدنيا بما هى: دُنيا الله"...هذا هو "نجيب محفوظ"، الذى ولد فى الحادى عشر من ديسمبر لعام 1911، وأمضى طفولته فى حى "الجمالية" حيث ولد، ثم انتقل إلى "العباسية" و"الحسين" و"الغورية"، وهى أحياء القاهرة القديمة التى أثارت اهتمامه فى أعماله الأدبية وفى حياته الخاصة، ورحل عن عالمنا فى الثلاثين من أغسطس لعام 2006، مخلفًا فى قلوب كل من قرأه فى شتى أنحاء العالم جرحًا كبيرًا خلد ذكراه حتى يومنا هذا.
تمر اليوم الذكرى السادسة على وفاة محفوظ، إلا أننا مازلنا ننظر إلى تفاصيل حياته ونتعلم منها، فحياته مليئةٌ بالتفاصيل التى لا حصر لها، فلا يتسم الفصل الواحد فيها بوتيرة واحدة، لكنه أحب دنيا الله، بما رمته بالنقيضين من مدحٍ وتقدير، واتهام بالكفر والإلحاد، فكان يقول: من يستطع أن يقضى على إنسان بتهمةٍ كالإلحاد، ولا مطلع على الفؤاد إلا الله؟!.."ميرامار" 1967.
قامت الدنيا ولم تقعد عام 1959 حينما كانت "الأهرام" تتابع نشر فصول من روايته "أولاد حارتنا"، التى تلقت ردود فعل قوية بسبب التفسيرات المباشرة الدينية لشخصيات الرواية، أمثال: الجبلاوى، أدهم، إدريس، جبل، رفاعة، قاسم، وعرفة، وشكل موت "الجبلاوى" فيها صدمة عقائدية لكثير من الأطراف الدينية، فى حين أن "محفوظ" استعمل فيها الحكايات الكبرى من تاريخ الإنسانية فى قراءة اللحظة السياسية والاجتماعية لمصر ما بعد ثورة 1952 ليطرح سؤالا على رجال الثورة عن الطريق الذى يرغبون السير فيه أهو طريق الفتوات أم طريق الحرافيش؟، وطالب الأزهر بوقف نشرها فى "الأهرام" وعدم صدورها فى مصر، فاحترم "محفوظ" الآراء التى هاجمته واتهمته، ونشرت فى بيروت، ومن ثم صدرت مؤخرًا فى مصر، إلا أن التفسيرات السطحية والهجوم المستمر والاتهام بالكفر والزندقة كان سببًا فى محاولة اغتياله، التى تسببت فى إعاقته عن الكتابة بيده اليمنى، تلك اليد التى قبلها الروائى البرازيلى الشهير "باولو كويلهو".
وحتى يومنا هذا، مازال "محفوظ" الذى أعطى للأمة العربية مكانة كبيرة، يتعرض لأبشع الاغتيالات المعنوية بعدما فشلت التصفية الجسدية، ويتهم عالمه الأدبى بأنه أدب المواخير، لما يتناوله من فحص لانحرافات بعض الشخصيات فى أعماله مثل "حميدة" فى روايته "زقاق المدق"، إلا أن هؤلاء لا يعودون قبل إلقاء التهم لدراسة ورصد الأسباب الحقيقة لانحرافات تلك الشخصيات.
وتقول "نادين جورديمير" الحاصلة على جائزة نوبل فى الآداب عام 1991، فى مقدمتها للترجمة الإنجليزية لكتاب "أصداء السيرة الذاتية": إن جوهر الكاتب يكمن فى أعماله، وليس فى شخصيته، بالرغم من تقييم العالم للأمور بشكلٍ مختلف، ويفضل العالم أن ينظر إلى ما ينظر ما يبدو عليه الكاتب فى التليفزيون بدلاً من البحث عن المكان الحقيقى الذى يمكن أن يجده: هو كتاباته.
يقول عن الثورات أيضًا فى رائعته "ثرثرة فوق النيل" والتى كادت أن تتسبب فى أزمة أيام الزعيم جمال عبد الناصر، وأصر "نجيب" أن يكمل نضاله ويكتب آراءه دون خوف فأتبعها برواية "ميرامار": "إن الثورات يدبرها الدهاة، وينفذها الشجعان، ثم يكسبها الجبناء...".
ولو كان الأستاذ حيًّا بيننا، فى أحاديث الصباح والمساء، المملوءة بالشعارات والخطب الرنانة، المتنازعة بين الأطراف السياسية، والتى يدعى كل منها سعيه لتحقيق نهضة مصر، ربما لتذكر ما قاله فى روايته "قصر الشوق": إن الأمم تحيا وتتقدم بالعقول والحكمة السياسية والسواعد، لا بالخطب والتهريج الشعبى الرخيص، ويوضح نجيب محفوظ أن حركة تحرر المرأة هى سمة أساسية من سمات فترات النهضة فى تاريخ الشعوب، فلا يمكن أن تكون هناك نهضة فى المجتمع دون أن تصحبها حركة لتحرر المرأة، مضيفًا "إن تحرر المرأة لا يقتصر فقط على المطالبة بمساواتها فى الحقوق والواجبات مع الرجل، بل يعنى اشتراكها الكامل فى الحياة السياسية والاقتصادية، وأيضًا فى المجالات الاجتماعية والثقافية".
وفى وقتٍ أصبح النظام الحاكم، نقد للإسلام، وتمنع مقالاتهم من الصحف، فإن أديبنا يقول: يصبح مقياس الديمقراطية هو قدر ما يتعرض له الحاكم من نقد..ويصبح هذا النقد هو الخبز اليومى الذى تتغذى عليه الديمقراطية السياسية، ليوضح "أن العلاقة بين السلطة السياسية والثقافية هى دائمًا علاقة فيها من التوتر تحت جميع الأنظمة السياسية، فالسلطة دائمًا تريد من يؤيد، أما المثقفون فهم ضمير الأمة".
هذا بعض من إرثٍ كبير تركه "محفوظ" خلفه، المتهم بالكفر والزندقة، "محفوظ" القائل فى "زقاق المدق": أقول لكم إن حب الحياة نصف العبادة، وحب الآخرة نصفها الآخر.