سألني منذ سنوات أحد الإعلاميين المصريين خلال برنامج حوار بالتلفزيون عما إذا كان وزير الخارجية هو الذي يصنع السياسة الخارجية المصرية في إطار الحكم المصري.. وأجبت بقناعاتي في هذا الشأن، وهى إجابة لا تقوم فقط على تجربتي الممتدة في النظام الرئاسي المصري؛ ولكن أيضا على قراءات عدة في السياسات الخارجية للدول الرئاسية المختلفة، مثل الولايات المتحدة أو فرنسا، التي تعطى سلطات رئيسية للرئيس في شؤون الدفاع أو الخارجية، كذلك روسيا التي يمارس الرئيس فيها دوره بدعم كامل من مجلس أمن قومي مؤسسي. قلت لصاحب البرنامج، إن الرئيس هو الذي يضع ويحدد الإطار العام للسياسة الخارجية المصرية وأولوياتها وأهدافها، وإن وزير الخارجية هو المستشار الأول للرئيس في تنفيذ هذه السياسة الخارجية بالتعاون مع كل منظومة السياسة الخارجية وقطاعاتها المختلفة الموجودة في الدولة، سواء مؤسسة الرئاسة ذاتها أو وزارة الدفاع أو جهاز المخابرات العامة أو وزارة الداخلية وبقية المؤسسات والأجهزة الحاكمة التي تتعاون في المساعدة بالجهد لتحقيق الأهداف طبقا للأولويات التي جاءت في الإطار العام لسياسة الدولة مثلما يحددها الرئيس. وأضفت أن وزير الخارجية لا شك، وطبقا لصلاحياته ومسؤولياته، يساهم بالتوصيات والمقترحات التي ينظر فيها الرئيس وهو يصدر توجيهاته في إطار عام للسياسة الخارجية التي يرغب في تطبيقها.
* جاءت إجابتي تلقائية وفورية، إلا أن البعض ممن ليس لديهم اطلاع أو معرفة بآليات النظام الرئاسي المصري أخذوا يوجهون انتقاداتهم لما تحدثت به. ومضيت في طريقي أنفذ سياسة بلادي مثلما حددها رئيس الدولة.. واليوم أنتهز فرصة هذا المقال وأقول إن الرئيس في مصر، سواء كان جمال عبد الناصر أو أنور السادات، وأخيرا حسني مبارك، وفى إطار النظام الذي أقامته ثورة 23 يوليو (تموز)، هو الشخصية الرئيسية التي تهيمن على السياسة الخارجية وتفرض ثقلها على كل أدواتها وآلياته. بل ويمكنني الزعم أن أيا من وزراء الخارجية المصريين الذين عملوا مع كل هؤلاء الرؤساء لا يمكنه إقناعي (حتى ولو ادعى عكس ذلك) أنه كان يصنع أو يضع سياسته الخارجية المصرية؛ أي سياسة مصر في عهد هذا الرئيس أو ذاك. وعلى الجانب الآخر، فإن هذا الرأي لا يعني إطلاقا أن وزراء الخارجية لم يكن لهم تأثيرهم أو دورهم الكبير في المساهمة في تشكيل هذه السياسة الخارجية لرؤسائهم. كما أن اختلاف مناهجهم وخبراتهم ومدى اقتناع الرؤساء بقدراتهم كان له تأثيره في الأساليب التي نفذوا بها هذه السياسة الخارجية، سواء بالصخب الإعلامي والمواجهة وإعلان المواقف الحادة أو الهدوء والحنكة والعمل الدبلوماسي المدروس، أو بمزيج من كليهما.
ويبقى التأكيد أن السياسة الخارجية المصرية، وهى محصلة الاهتمامات والأولويات التي
تحددها الدولة المصرية، ورئيسها وأجهزتها المختلفة، في علاقاتها الخارجية، سواء مع الدول أو المجتمعات الأخرى أو المنظمات الدولية والإقليمية، كانت تتحكم فيها دائما عناصر ثلاثة محددة؛ وهي: الجغرافيا، والتاريخ، والثقافة المتراكمة عبر آلاف الأعوام في ضمير الشعب المصري وقياداته. ومن هنا، ما كان لأي من الرؤساء أو وزراء الخارجية وكبار معاونيهم أن يشرد في طريق يأخذ مصر بعيدا عن المفاهيم المستقرة للأمن القومي المصري وقدسية الأرض والحدود والمياه والتزامات الثقافة والتاريخ. وأعني بذلك أن مصر ذات الثقافة الإسلامية والقبطية تعلم بأن عليها التزامات تجاه نفسها وإقليمها عند تنفيذها علاقاتها الخارجية، والخلفيات التاريخية لهذه العلاقات سواء تجاه الجوار القريب أو الآخر الأبعد. كما أن محددات الجغرافيا بشكلها ومفهومها التقليدي المعروف أو الجغرافيا السياسية بإطارها العام هي أيضا لها تأثيرها الثابت المستقر أو المتغير بتغير علاقات القوى وقدرات المجتمعات التي تتعامل معها مصر سواء على مدى مائتي عام من الدولة الحديثة أو الأعوام الخاصة بحكم كل رئيس مصري والظروف والمناخ والبيئة الدولية التي فرضت نفسها عليه وبالتالي على السياسة الخارجية لإدارته.
وبطبيعة الأحوال، فإن عملي الدبلوماسي بوزارة الخارجية فرض أن يكون لدي معرفة، أو على الأقل أن أبذل محاولة جادة للتعرف على السياسات الخارجية للدول المختلفة، خاصة الكبرى وذات التأثير منها في العصر الحديث وعلى المدى التاريخي الممتد والبعيد. وكانت قناعاتي المستقرة أن المجتمعات والدول ذات التأثير التاريخي في مناطقها أو على مستوى العالم لا تغير، إلا نادرا وتحت ضغوط غير مسبوقة، من منطلقات سياساتها أو أهدافها. وقد يكون من المناسب أن نتعرض بإيجاز شديد، ولمجرد تأكيد الفكرة للقارئ، لسياسات وأهداف بعض القوى ذات البصمة في عالم اليوم.
الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يحكمها في سياساتها الخارجية كونها جزيرة عظمى تطل على عدة محيطات وبحار، وانتقالها من العزلة والقواعد الحاكمة لها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلى الخروج الأميركي إلى العالم في القرنين العشرين والحادي والعشرين، حاملة راية الانفتاح والتجارة الدولية والترويج للرأسمالية والديمقراطية.
أما روسيا، فهي أيضا تمثل مساحة هائلة من الأرض الممتدة عبر أوروبا الشرقية وشمال آسيا.. فتح أراضيها وغزاها العنصر الروسي السلافي على مدى مئات الأعوام ويسعى اليوم بكل الوسائل للحفاظ على ما حققته روسيا القيصرية على مدى قرون ممتدة، وتمسك بها الحكم الشيوعي السوفياتي أو الجمهورية الفيدرالية الحالية.. والواقع، أن هذه الرؤية في انطباقها وتماثلها بالنسبة للصين أو روسيا والولايات المتحدة، تنطبق أيضا على المجتمعات والدول التاريخية الأخرى، سواء تركيا أو إيران، وبالتأكيد مصر.
كنت أتابع أيضا، وعلى مدى سنوات عملي، دبلوماسيا بوزارة الخارجية، كيفية اتخاذ القرار في السياسة الخارجية المصرية، وذلك بالمقارنة بالكيفية التي يتم بها الأمر في الدول والمجتمعات الكبرى.. وكان لي بعض الملاحظات:
أولا: أن الرئيس عبد الناصر اعتمد بشكل كبير على الدكتور محمود فوزي، وزير الخارجية في السنوات الأولى للثورة وحتى انسحاب إسرائيل من أراضى سيناء في فبراير (شباط) 1957، ثم اتخذ الرئيس قرارا - في ضوء الدروس المستفادة من حرب 1956 والمواجهة مع بريطانيا وفرنسا وظهور أهمية الحاجة لبلورة قدرات للدراسة والتقييم والعرض والتوصية - بإنشاء مجموعة مكاتب متخصصة في السياسية الخارجية برئاسة الجمهورية.
من هنا، كان هناك مكاتب أفريقيا، والشؤون العربية، والشؤون الأوروبية، والآسيوية، والأميركية. ويلاحظ هنا أن كل مسؤوليها كانوا من العسكريين السابقين الذين كانت لهم تجربة أو معرفة ما بالعلاقات الدولية أو العربية. وتم أيضا خلال هذه الفترة إنشاء جهاز المخابرات العامة المصرية لمساعدة الرئيس والرئاسة في اتخاذ قرارات السياسة الخارجية التي بقيت خلال سنوات حكم الرئيس عبد الناصر خاضعة بالكامل لقراره واختياراته. ومع تطور عمليات الرئاسة، أصبح لمكتب المعلومات، وسكرتيره، تأثيره الكبير على قنوات المعلومات التي تصل إلى الرئيس. والحقيقة أنني لا أعرف كثيرا عما إذا كان تناول هذه المعلومات فقط في موجزات للمعلومات وعرض لتوصيات الأجهزة والشخصيات المصرية المختلفة، أم أنها كانت تتضمن كذلك بحثا في الخيارات المتاحة والتفضيل في ما بينها، ثم التوصية من قبل سكرتير المعلومات بهذا أو ذاك من إجراءات ينصح باتخاذها.
ثانيا: أن الرئيس السادات سار على نهج الرئيس عبد الناصر، حيث اعتمد في الحصول على المعلومات، على سكرتارية وسكرتير المعلومات، وكذلك على جهازي المخابرات العامة، ووزارة الخارجية. وإن كان المؤكد أن ثقته في كل هذه الأجهزة قد اهتزت بعض الشيء في أعقاب أحداث مايو (أيار) 1971. ثم أضاف الرئيس إطارا جديدا لعمليات السياسة الخارجية المصرية بإنشاء منصب مستشار الأمن القومي للرئيس، وحدد له سلطاته في البداية من خلال المجالس القومية المتخصصة، ثم فصل اختصاصاته عنها وأصدر قرارا جمهوريا يحدد لهذا المستشار مهامه ومسؤولياته.
كان لي، خلال سنوات خدمتي في السلك الدبلوماسي المصري في الفترة من عام 1965 وحتى انضمامي إلى مكتب مستشار الأمن القومي في أغسطس (آب) 1972، اهتمامات بالقراءة المدققة في الأسلوب الذي يعمل به مستشار الأمن القومي الأميركي، مع فارق المقارنة بمسؤوليات واهتمامات مصر والولايات المتحدة، ودققت كثيرا في ما كان ينشر عن أسلوب وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأميركي السابق هنري كيسنجر في إدارة عملياته ومسؤولياته مع الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون.
ومن هنا، كنت أستشعر الرضا الشديد بسبب قرار الرئيس السادات، إنشاء هذا المنصب بالرئاسة المصرية، ثم تطويره لاحقا بشكل يوسع اختصاصاته ولكي تتوافر لديه القدرة على التخديم على احتياجات الرئيس الدولية بشكل شامل آخذا في الاعتبار الأوضاع الداخلية. وكان لمستشار الأمن القومي دوره الواضح في العامين السابقين لمعركة أكتوبر (تشرين الأول) في العمل الخارجي وإعداد مسرح العملية العسكرية المصرية في إطارها الدولي والإقليمي العربي.
واستشعرت الاستغراب الشديد، عندما أنهى الرئيس السادات مسؤوليات مستشاره للأمن القومي، محمد حافظ إسماعيل، في فبراير (شباط) 1974 بعد فض الاشتباك الأول في سيناء، ولم يتم تعيين شخصية أخرى. بل جرى تسريح كل العاملين في هذه المنظومة وكان عددهم يقترب من عشرين عضوا تم اختيارهم وانتدابهم من الأجهزة المصرية المختلفة.. الخارجية والدفاع والمخابرات العامة وبعض أجهزة الدولة المدنية، ومن تخصصات محددة مثل شؤون العمليات العسكرية، وشؤون إسرائيل، والمنظمات الفلسطينية للمقاومة، والأمم المتحدة، ودول الكتلتين الشرقية والغربية، والدول العربية، وأفريقيا، والقارة الآسيوية.
وعاد الرئيس السادات في الفترة من 74 حتى عام 77 يعمل في اتساق كبير مع وزير الخارجية إسماعيل فهمي ومع إعطاء وزن رئيسي وأهمية لما كان يطلق عليه المجموعة السياسية للأمن القومي التي كان يشرك فيها رئيس الوزراء ورئيس مجلس الشعب ورئيس مجلس الشورى ووزراء الدفاع والداخلية والخارجية وشخصيات أخرى تحظى بثقته، وأخيرا نائب الرئيس الذي كانت لديه صلاحيات الإشراف على رئاسة الجمهورية والأجهزة الأمنية.
وجاءت مبادرة الرئيس السادات بزيارة القدس ثم المفاوضات التي تلتها وانتهت بتوقيع إطارات السلام لكامب دافيد، ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وما صاحبها من استقالات لعدد من وزراء الخارجية والدولة المصريين.. وينغلق الرئيس على رجاله اللصيقين.
وأتابع من جانبي وعن بعد ما يجري من تيارات حول الرئيس، وأقدر أن هناك اتجاهات تجمع التكنوقراط بالجيش والخارجية في مواجهة شخصيات تحظى بثقة الرئيس، ويبزغ في هذا السياق أسامة الباز الذي كان يعمل أحيانا بمثابة وزير للخارجية وأحيانا أخرى باعتباره مستشار الأمن القومي، وضعف إلى حد كبير منصب سكرتير الرئيس للمعلومات.
ثالثا: ومع تعيين الرئيس مبارك، رئيسا للجمهورية في أكتوبر (تشرين الأول) 1981 كان أملي كبيرا في أن يقوم بإعادة تنظيم حقل السياسة الخارجية المصرية، وإعادة إنشاء مناصب مستشاريه للأمن القومي للتنسيق بين كل أجهزة الدول العاملة في هذا المجال ودمج وتقييم توصياتها وتقديمها للرئيس بأسلوب وشكل يرفع كفاءة القرار في السياسة الخارجية المصرية. إلا أنني لاحظت أنه قام باستخدام أسامة الباز بنفس أسلوب الرئيس السادات.
وإن كان قد أعطاه في فترة لاحقة منصب مستشار الرئيس للشؤون السياسية دون تزويده بالبعد المؤسسي، وأعني به مجموعة المعاونين من تخصصات مختلفة مثلما فعل محمد حافظ إسماعيل. وأعاد الرئيس بالتوازي مع ذلك، الاهتمام إلى منصب ومسؤوليات سكرتير الرئيس للمعلومات الذي أصبح يمثل النافذة التي يطل بها على كل أجهزة الدولة، وربما في كل المجالات وليس فقط السياسة الخارجية.
وكشف الرئيس السابق مبكرا عن اقتناعه بالمؤسسية في عمليات السياسة الخارجية. من هنا، اعتمد على وزراء الخارجية الذين تعاقبوا للعمل معه، كمال حسن علي وعصمت عبد المجيد وعمرو موسى وأحمد ماهر السيد وأحمد أبو الغيط، كما شجع أن تستمر المخابرات العامة في إدارة ملفات محددة منذ عهد سلفه، مثل ملف السودان وليبيا وملفات المقاومة الفلسطينية وإسرائيل في أبعاد المسائل الأمنية معها وتجاهها.
كانت وزارتا الحربية و/ أو الدفاع المصرية طوال هذه العقود لديها اطلاع وثيق على شؤون السياسة الخارجية المصرية والعمليات الدبلوماسية دون تدخل إلا من خلال ما يطلب منها في مجموعات العمل المشتركة التي تعمل لتنسيق مواقف مصر والتعرف على رؤى الأجهزة المختلفة، باختلاف الموضوعات.
كنت خلال سنوات حكم الرئيس السابق دائم التنقل بين العمل في السفارات بالخارج، أو الديوان العام بداخل مصر. وكانت لي ملاحظاتي، خاصة مع تعييني وزيرا للخارجية، وهى ملاحظات عديدة كتبت فيها بكثافة وضمنتها كتابي المقبل تحت عنوان «وزيرا للخارجية.. السياسة الخارجية المصرية في الفترة من 2004 حتى 2011» ويتناول كل اهتمامات الدبلوماسية المصرية في هذه الفترة. ولعلي أتطرق إلى بعضها بإيجاز في هذا المقال:
أولا: أن الرئيس السابق مبارك كان يميل إلى بساطة التشكيل المؤسسي للسياسة الخارجية بالرئاسة، ولعله كان لا يرغب في وقوع صدامات أو منافسات تثير المشكلات له، أو بزوغ مراكز للقوى، وذلك على حد قوله دائما لكل اقتراح يستهدف تطوير عمل سكرتارية أو سكرتير المعلومات.
ثانيا: أن الرئيس كان يعتمد على وزارتي الخارجية والمخابرات العامة في صياغة سياسته الخارجية وتنفيذها. وكثيرا ما كان يطلب من سكرتير المعلومات التحقق من المعلومات المرفوعة إليه أو التوصيات المقترحة ورؤية الجهاز الآخر لها.
ثالثا: أن اعتماده - أي الرئيس السابق - على المخابرات العامة قد زاد مع زيادة ثقته في اللواء عمر سليمان على مدار السنوات، ومع استمرار عمليات المخابرات وإمساكها بملفات محددة، مثل ليبيا والسودان ومسائل الفلسطينيين وشؤونهم وليس التسوية الفلسطينية في إطارها الدولي التي بقيت في مسؤوليات الخارجية المصرية طوال الوقت، فقد وضح أن نفوذ اللواء عمر سليمان قد زاد كثيرا على حساب وزراء الخارجية بدءا من الأعوام الثلاثة الأخيرة من فترة الوزير عمرو موسى وكل فترة أحمد ماهر السيد، وكان هذا الوضع هو الذي وجدته عند تكليفي بمهمة وزير الخارجية، وقد كتبت رؤيتي تفصيلا في هذا المجال في كتابي المقبل حول السياسة الخارجية المصرية.
رابعا: الرئيس السابق كان يشجع الحصول على تقارير مباشرة وسهلة في قراءتها وتوصياتها، ومن هنا نُصحت، منذ بداية عملي معه من اللواء عمر سليمان، أن أبقي دائما على بساطة العرض ووضوح التوصيات مع سرعة الاستجابة لكل استفساراته حيث إنه لا يصبر كثيرا عن أمر يرغب في معرفة تفاصيله أو معلومات بشأنه.
خامسا: أن الكثيرين من كبار مساعدي الرئيس كانوا يتحدثون معي، بعد تعييني وزيرا للخارجية عام 2004 بأنهم يلاحظون خبو حماسه وأنه أصبح مثقلا بالهموم وأصابه الإرهاق الذي تعاظم مع وفاة حفيده..وكان لذلك انعكاساته على السياسة الخارجية المصرية.
سادسا: أن الرئيس السابق، في ممارسته السياسة الخارجية كان يبتعد عن مسائل التنظير وفلسفات المواقف الدولية للدول والشخصيات، وكان يركز على نقاط محددة:
* «دول المشكلات»: وفى مقدمتها إسرائيل التي كان يعطي العلاقات معها اهتمامه الكبير. وكان يتمسك بمعاهدة السلام في كل جوانبها وحتى لا يعطي أو يوفر لإسرائيل سببا لإثارة المشكلات لمصر. وكان يتمسك بقوة بالسلام مع التكافؤ والاحترام، وعدم إتاحة الفرصة لشخص أو مجموعة سياسية أو دولة أن تقحم مصر - بتدبير - في حرب بالشرق الأوسط، وهى مواقف تمسك بها في أعوام 1982 و2006 و2009.
ولم تكن إيران بعيدة عن تفكيره باعتبارها دولة مشكلة، وكان يتحرك في العلاقة معها بأكبر قدر من التحسب والحذر، وذلك رغم أن كل وزراء خارجيته كانوا دائما يحثون على إعطاء الفرصة للبلدين (مصر وإيران) لتطوير علاقاتهما وبما يمكن أن يفيد الإقليم، خاصة إذا ما كان قد تم النجاح في إقامة تعاون عريض بين مصر وإيران وتركيا.
* «دول المشكلات والمصالح»: وأقصد بها مجموعة دول حوض النيل التي تجمعها بمصر المشاركة في مياه النيل الذي من دونه لن توجد مصر. كان يرى أهمية في تطوير هذه العلاقات، في حدود الموارد والإمكانات المصرية وعدم السماح بابتزاز مصر مائيا أو ماليا.
والمؤكد اليوم، من وجهة نظري وواقع متابعتي لأدائه في هذا الملف، أن تقدمه في العمر أصبح يعوق قدرته على السيطرة على جوانب وخلفيات هذا الموضوع الشائك الذي يحتاج لحيوية وحزم. إن هناك الكثير جدا مما يمكن أن يقال أو يسرد في هذا الشأن، وقد ضمنت فصلا كاملا من أكثر من أربعين صفحة تتناول الموضوع في كتابي المقبل عن السياسة الخارجية المصرية.
ونبقى في إطار هذا القسم من دول المشكلات والمصالح، ونرصد الاهتمام الكبير الذي كان يوليه الرئيس السابق لكل من ليبيا والسودان واعترافه بالمشكلات والمعوقات والصعوبات التي يواجهها في عمله مع هذين البلدين. كان يقدر دائما أهمية تهدئة الزعيم الليبي السابق معمر القذافي غريب الأطوار والدفاع عن مصالح مصرية. كما لم يكن يغيب عن رؤيته الصعوبات المستمرة التي يمر بها السودان منذ استقلاله في عام 1956 ويسعى في حدود إمكانات مصر لمساعدته أحيانا ضد إرادة السودانيين أنفسهم.
* «دول المصالح الاستراتيجية والمادية»: لا شك أن دول مجلس التعاون الخليجي، وفى مقدمتها المملكة العربية السعودية، كانت تستحوذ كلها على الاهتمام المصري غير المسبوق، ولا شك أن كل التصرفات المصرية كانت تكشف عن هذه الرؤية. على الجانب الآخر، لم تكن سوريا أو العراق تغيبان عن اهتمامات السياسة الخارجية المصرية، ومع ذلك، يجب الاعتراف بأن حماقات تصرفات قيادات هاتين الدولتين وضعتهما في مواجهات ما كانت لمصر قدرة على التصدي لها أو منعها.
* «دول التأثير الدولي.. السياسي والاقتصادي»: وهى الولايات المتحدة، التي كان الرئيس السابق يعطى الصلات معها اهتمامه الكبير. ورغم ذلك، فإنه قاوم بحزم المطالب الأميركية في بداية حكمه، وطوال عامي 1983 و1984، للحصول على قواعد بحرية وجوية في منطقة رأس بيناس المطلة على البحر الأحمر، كما رفض دائما إعطاء الأميركيين قاعدة جوية أو أكثر للاستخدام الدائم من قبل القوات الأميركية.
ونأتي الآن إلى دول الاتحاد الأوروبي وفى مقدمتها الرباعي: فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا التي كان يبقي على أواصر الصداقة مع زعمائها كلما تغيروا من خلال الانتخابات ببلادهم.
وكان الرئيس السابق يبدى الاحترام للقدرات الروسية والتصميم والعناد الروسي التقليدي؛ وإن كان لم يحاول في أي وقت استثارة مخاوف الولايات المتحدة أو غيرتها من خلال توطيد العمل المصري - الروسي المشترك بشكل كثيف. كما كان يحمل التقدير لنجاحات الصين وإمكانات الاستفادة المصرية من هذه النجاحات. واعتقادي اليوم وبعد تعمق في التفكير، في إشكاليات العلاقات المصرية وتحركاتها الخارجية دوليا، أنه رغم تجربة الرئيس مبارك وخبرته الكبيرة في التعامل الدولي، فإن غياب المعرفة الفلسفية لمغزى ومفهوم التطورات في المجتمعات الأخرى، وبالذات الآسيوية والأميركية الجنوبية، كانت تمثل عائقا لانطلاقة مصرية ليس بالضرورة مرتبطة بالقضية الفلسطينية التي كانت الشغل الشاغل لمصر خلال ستين عاما، حربا أو سلما.
أخيرا؛ هناك الكثير ولا شك مما يمكن أن يكتب أو يقال بشأن السياسة الخارجية المصرية.. انتصاراتها وصعوباتها، والمؤكد في تقديري أن السياسة الخارجية المصرية، مثلما يتفق الجميع، لم تكن تعمل بمعزل عن تأثيرات الأوضاع والقدرات والإمكانات والتطورات الداخلية المصرية على مدى الفترة الممتدة من 5 يونيو (حزيران) 1967 حتى يوم أفول نجم الرئيس السابق في 11 فبراير (شباط) 2011.
والمؤكد أيضا، بالتالي، أن السياسة المصرية الخارجية في السنوات المقبلة سيحكمها في إيقاعها وتأثيرها مدى استقرار الدولة المصرية وشكل نظامها الداخلي ورؤية وتوازن القائمين على أمورها.. إلا أن ما يُنصح به هو الحذر من المغامرة أو الاضطلاع بمسؤوليات تعجز الدولة المصرية وتقصُر إمكاناتها عن القيام بها أو أن تدخل في مواجهات تخرجها عن كونها «دولة طبيعية» لها مسؤوليات خاصة تتجاوز أوضاع ومسؤوليات الدول المماثلة، وتحولها إلى دولة يمكن أن توصف من خصومها بأنها دولة «مغامرة، أو شاردة».. فالحذر واجب! لقد استخدم مفهوم «الدور والسطوة»، على مدى عقود من قبل الدولة المصرية للتغطية على وإخفاء قصور المجتمع المصري في مواجهة احتياجات المصريين في التعليم والصحة ومجتمع الرفاهة، وهى كلها، في تقديري، العناصر الحقيقية للسطوة والسلطان الفعلي. ومرة أخرى، فلنركز على بناء الإنسان والمجتمع الفاضل، ومن خلاله نخرج إلى العالم والإقليم مرفوعي الرأس.. نحظى بالاحترام والتأثير مثلنا في ذلك مثل كل دول الرسالات. من هنا، فلتكن سياستنا الخارجية تستهدف تحقيق المناخ المناسب واللازم لمصر لكي تنطلق في رسالتها الداخلية، وسوف يكون لذلك انعكاساته في مستقبل الأيام على الدور المصري.
وسأختتم هذه السلسلة من المقالات بمقال أخير يتناول توصيات للسياسة الخارجية المصرية بعد «25 يناير".
أبو الغيط يكتب : حول السياسة الخارجية المصرية ومؤسساتها
الأربعاء، 29 أغسطس 2012 10:03 ص
وزير الخارجية الأسبق محمد أبو الغيط
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
علاء
حرام عليك
والنبي ترحمنا من قرفك
عدد الردود 0
بواسطة:
عرفة الشريف
ههههههههههههههههه
توتة وتوتة خلصت الحدوتة
عدد الردود 0
بواسطة:
ابمن عبد الله حسين
انت لسه عايش
التعليق بالعنوان
عدد الردود 0
بواسطة:
بلعفتقثعنغق
gj7u
حسبى اللة ونعم الوكيل -حراس امن الخارجية
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
رغى كتير
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
شبرا
الراجل دة بيفهم
واللة المستعان
عدد الردود 0
بواسطة:
مجدي مرزوق
متى نستريح من هذه الوجوه
عدد الردود 0
بواسطة:
عبدالرحمن
كلام فات اوانه
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد
أين هذا الكلام من الفعل
عدد الردود 0
بواسطة:
زيد الحمد
تجربة قد يستفاد منها