الدكتور محمد محسوب وزير الشؤون القانونية يكتب: حقائق جديدة حول الدستور.. ما يجرى من نقاش داخل "التأسيسية" يعترف بالتنوع والاختلاف داخل الدولة.. وأغلب القوى الإسلامية ليس من برامجها فرض وجهة نظرها

السبت، 25 أغسطس 2012 02:00 م
الدكتور محمد محسوب وزير الشؤون القانونية يكتب: حقائق جديدة حول الدستور.. ما يجرى من نقاش داخل "التأسيسية" يعترف بالتنوع والاختلاف داخل الدولة.. وأغلب القوى الإسلامية ليس من برامجها فرض وجهة نظرها د. محمد محسوب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ربما تكون المشكلة الحقيقية التى تواجهنا عند صياغة الدستور هى مدى إدراك الأفراد والمؤسسات لمعنى الدستور وحقيقته، وربما أن أكثر الأفكار مأساوية تلك التى ترى فى الدستور كتاب هوية أو وثيقة تنتصر لوجهة نظر معينة على ما سواها فى مجال الدين والسياسة والاقتصاد والمجتمع.

وقد لا ينتبه الناس إلى أن العيب الجوهرى فى دستور 71 لم يكن توسعته لسلطات الرئيس، رغم خطرها، ولا - فقط - انتهاكه لحقوق وحريات الناس بتفريغها من مضمونها وباشتراطه الدائم للتطابق مع القانون أو الآداب العامة أو النظام العام أو غير ذلك، إنما تمثل العيب الأكبر فيما استحدثه هذا الدستور النكبة من مواد تحت مسمى مقومات الدولة، اجتماعية منها واقتصادية وسياسية، فتضمن هذا الباب بمواده الـ39 نموذجا فجّا للدولة، ما بين شكلها السياسى الذى أصبح «ديمقراطيا اشتراكيا» ونظامها الاقتصادى الذى أمسى «اشتراكيا ديمقراطيا»، ومجتمعها الذى يلتزم السلوك «الاشتراكى». وانتهى إلى تقرير غايات لم يحققها أبدا، فجعل الشعب مسيطرا على كل أدوات الإنتاج وعلى توجيه فائضها ولكل مواطن نصيب فى الناتج القومى وللعاملين نصيب فى إدارة المشروعات والملكية تخضع لرقابة الشعب وتحميها الدولة والقطاع العام يقود التقدم والملكية الخاصة تتمثل فى رأس المال غير المستغل، إلى غير ذلك من الأحلام التى لم تحققها الدولة المصرية خلال أربعين سنة عاشها هذا الدستور إلا عكس ما حلم به واضعو ذلك الدستور.

وكان فشل دستور 71 نموذجا لفشل الدساتير التى تتبنى رؤية محددة لشخص أو لفصيل يحاول أن يفرضها على الشعب بأكمله، ويسعى إلى تلوين الحياة باللون الذى يعشقه، فلم يكن العيب متمثلا فى الفكر الاشتراكى ذاته، بما يحمله من تصرفات بشأن تحقيق العدالة الاجتماعية، بقدر كونه عيبا يكمن فى روح الاستئثار وفرض الرؤى على الجميع وصناعة نموذج واحد للنهضة، وجعل التقدم رهانا واحدا، فإما أن ينجح وفقا للنموذج المرسوم فى الدستور أو أن يرسب، وعندها تنكسر الأمة فى مجملها، دون تمييز بين من فرض نموذجه ومن استسلم لهذا النموذج.

ولم يكن ما فرضه دستور 71 نموذجا اقتصاديا اشتراكيا فقط، وإنما فرض معه نموذجا سياسيا يقوم على تحكم فصيل سياسى واحد، ونموذجا اجتماعيا وأخلاقيا يقوم على فرض وجهة نظر أخلاقية محددة تجعل من المواطنين صالحين فى حدود الالتزام بالطاعة والقبول بالتبعية للحاكم وزمرته، لا يشاركون فعلا فى الاقتصاد أو السياسة إلا إذا طُلب إليهم ذلك، فهم طيبون بغير مبادءة وصالحون دونما مغامرة أو مبادرة، وشرفاء غاب عنهم الإبداع والابتكار لأنه ببساطة قد يخرق قوانين النظام الذى صنعه هذا الدستور.

ولم تفلح كل محاولات الترقيع التى لحقت هذا الدستور، ولم يفلت من مصيره المحتوم، كمصير كل طاغية يرى فى تنوع الناس واختلافهم خطرا محدقا بالدولة فيحاول أن يجعل من الناس قوالب متماثلة وأمساخا متشابهة.

يجب ألا نكرر تلك التجربة المريرة، فالدستور ليس كتاب رؤى وأفكار وهويات، يحاول كل فريق أن يعكس فيه رؤيته ليفرضها على المجتمع، فهو ببساطة كتاب تعايش لا يهدف إلى إلغاء الاختلاف والتمايز والتنوع وإنما يعمل على تنظيم كل ذلك وحمايته، بما يجعله سبيلا لتقدم المجتمع، فإذا فشل تصور فى وضع حلول لمشكلات معينة كانت لدينا تصورات أخرى ومبادرات مختلفة، ولا يجعلنا أسرى رؤية واحدة نفشل إذا فشلت.

والإسلاميون هم من أشد الناس معاناة من النظم الديكتاتورية ومن محاولتها فرض رؤيتها للمجتمع والسياسة والدين على باقى الشعب، ومن ثم لا يجوز أن يقعوا فى ذات الخطأ، لأن ذلك لا يؤدى إلى انتصار فكر أو تصور وإنما إلى إخراجه من التاريخ وإن بعد فترة، بعد أن تعييه الحيل ويعجز عن استعاب كل المجتمع بتنوعه واختلافه ويدخل فى خصومة صامتة أو متفجرة مع باقى أطياف المجتمع، ومن ثم تتحول الحياة السياسية إلى سيرك للصراع وليس لساحة من المنافسة الشريفة، إذ لا مكان للمنافسة إذا حاول طيف أن يفرض وجهة نظره، ولا يكون أمام باقى الأطياف سوى أن تضع كل ما تملكه من عصا فى عجلة الدولة.

والحق يُقال أن غالبية القوى الإسلامية أدركت تلك التجربة، وليس من بين برنامجها فرض وجهة نظرها فى كتاب الدستور لتنهى التنافس باكرا بانتصار مؤزر يجعل الدستور انعكاسا لبرنامجها، بل على العكس من ذلك، فإن النقاش داخل الجمعية التأسيسية أنبأ عن إدراك راق لحقيقة أن الدولة تقوم على التنوع والاختلاف، وأن شرط النهضة هو الإقرار بذلك وحمايته شريطة تنظيمه لكى لا يتحول الاختلاف إلى خلاف والتنوع إلى صراع، وأن دور الدستور أساسا هو تنظيم ذلك التعايش بما يحول كل اختلاف إلى قوة وكل تنوع إلى ميزة.

ويبدو أن ذلك لم يكن ناتجا فقط عن تجربة حياتية عاشها الإسلام السياسى من إقصاء وقهر، وإنما ينبنى، قبل ذلك، على أسس فكرية راسخة تقر بالاختلاف على أنه ملاصق للحياة ذاتها وقرين تطورها، وهو كما يعبر عنه القرآن الكريم بقول رب العزة «ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم»، وكذلك يستند إلى تجربة الإسلام الأولى فى قبول النبى بالتنوع فى المدينة ووضعه لصحيفتها الأولى ودستورها الذى نظم التعايش فيها بين مختلفين، ثم لسلوك المسلمين فى فتوحاتهم وإدارة دولتهم التى شارفت على مساحة نصف العالم القديم، فلم يلغوا الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة، وإنما اعتمدوا عليها فى إدارة البلاد، بل لم يهدموا دور العبادة والمعابد لأديان سماوية أو لغيرها، ولم يتركوا على آثار الفراعنة أو معابد الهندوس أو غيرهم آثار تدمير أو علامات كراهية أو ما ينم عن سعيهم إلى إلغاء لوجود هؤلاء من الناحية الاجتماعية.

لكننى فقط أذكر كل القوى التى تتشارك اليوم فى وضع الدستور، سواء من أعضاء الجمعية التأسيسية ومن خارجها، أن ينتبهوا إلى الفضيلة الأولى للشعب المصرى، والتى إن قدرناها وأقررنا بها نجحنا، ونجحنا جميعا، ألا وهى الوسطية فى كل شىء، وأول معانى الوسطية الامتناع عن إقصاء أى فكر أو فئة أو طائفة، والإقرار بدور الجميع وضرورة مشاركته لتحقيق النهضة، وهو ما يستوجب أن يكون الدستور كتاب تعايش لا كتاب رؤى وتصورات يحاول فريق أن يفرضها على باقى أشقائه.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة