"فى قلب الفوضى يوجد نظام" هذه المقولة المتناقضة ظاهريا، تعبر فى حقيقتها عن انسجام، وعن أمر واقع، فإذا كتب لنا أن نغص قليلا فى حقيقة ما نراه وما يمر بنا فى الوقت الراهن سنرى ما نزيل به تناقضها بسهولة، وإن لم نفعل فهى بالنسبة لنا لا تعنى شيئا سوى تناقض نمر به كمرور الكرام دون أن نعيه.
فالفوضى فى تعريفها السياسى تتلخص فى غياب سلطة الدولة، ومن الناحية الاجتماعية هى عدم الاعتراف بسلطة الدولة والاعتراض عليها، وفى الحالتين النتيجة هى عدم الترابط أو التفكك بين أجزاء هذه الدولة المختلفة وغياب ما ينظم العلاقات بين هذه الأجزاء وبعضها البعض، وبين المواطنين أنفسهم والدولة، ويمكننا أن نقول إنها نتاج تضافر عدة مشكلات كبيرة معا نتجت عن هذا التفكك حتى أصبحت من الصعوبة السيطرة عليها.
وخير مثال على الفوضى فى مصر هو الانفلات الأمنى، فهو نوع من الفوضى، لكن بشكل متعمد من جهة تابعة للدولة نفسها، نتيجة انعدام سلطة الدولة على هذه الجهة، والتى كما نعرف كانت يد الحاكم للاستبداد والقمع، وكانت رمزا للسلطة المطلقة فيما مضى.
فالفوضى التى تنبأ بها مبارك ليست إعجازا، فقد ولى زمن المعجزات وانتهى إلا إذا أراد الله عكس ذلك، وفوضى مبارك كانت فى مجملها مبنية على الفوضى الأمنية، ثم شملت بعد ذلك نوع من العصيان "الخفى" - الذى يراه العامة لكنهم لا يدركونه - للعناصر الفاسدة التى كانت تتحصل على المصالح جراء فساد النظام البائد ولا يرضيها سقوطه، وهى بذلك تعاقب المجتمع الذى ساهم فى إسقاطه، وهو ما يثبت أن حقيقة هذه الفوضى التى نراها الآن أو مستقبلا، هى أنها فوضى منظمة، لها رءوس، ولها عدة قادة، ولها ممولون يتسمون بـ "السخاء". وفى تحالف معها وفى نفس الخندق أيضا، يوجد خائن ومتواطئ، وإن كان من خارج المخططين لهذه الفوضى، لكنه يساهم بدور قوى وفعال فى استمرارها، ولا أعتقد أننى فى حاجة للإيضاح فالإشارة واضحة، وحتى لا أطيل فيما تعلمونه تمام العلم، فدعونى أذهب إلى مقصدى مباشرة بعد ألفت نظركم إلى كلمة هامة وردت وهى "سخاء" فمن ينفقون بسخاء هنا هم من امتصوا دماءكم طوال العقود الماضية ويرون فى ثورتكم نهاية قريبة لأطماعهم، لذلك فهم ينفقون من أموالكم ضدكم لإحباط ثورتكم.
وفى تخيلى فإن الشعوب لا يمكنها أن تفشل فى حل مشاكلها، إلا إذا فشلت فى التواجد على سطح الأرض من الأساس، فحل المشكلات مهما صعبت ليس مستحيلا.
فحل المشكلة الأمنية على سبيل المثال، وهى الأهم فى الفترة الحالية لأنها تعتبر مفتاح حل لمشكلات أخرى كثيرة، يتلخص فى فرض الدولة لسلطتها أولا على الجهة المنوطة بتوفير الأمن وحماية المواطنين، وذلك عن طريق تفعيل الدور الرقابى على هذه الجهات من خلال هيئات مستقلة لم يطلها فساد، فليس من المنطقى أن يترقى ضابط فاسد ليصبح "مفتشا" على من علمهم الفساد بيده، فيجب أن يكون المراقب من خارج المنظومة الفاسدة حتى يستطيع القضاء على فسادها، فمثلا ليس من المنطقى بل من السذاجة أن نطالب من "يسرح" البلطجية ويوفر لهم الحماية أن يكبح جماحهم من تلقاء نفسه دون أن يرى سلطة الدولة فوق سلطته وأن يراها رادعة قادرة على الإطاحة به بغيره من المقصرين والفاسدين، ومن هنا يمكن للدولة أن تتأكد من احترام الجهاز الأمنى بكامله للقانون والالتزام به بل من تطهيره أيضا، ومن ثم يمكن لهذه الجهات أن تمارس دورها فى حفظ الأمن داخل المجتمع، وبمساعدة أفراد المجتمع نفسه.
وللقضاء على الفساد فى مؤسسات الدولة المختلفة على كل من الدولة والمواطن أن يتحدا على نفس الهدف، وهو "التطهير السلس" الذى يدفع حسنة سيئة، ويحاصره حتى يقضى عليه تماما، وفرض سلطة الدولة هنا يأتى من خلال إصلاح الجهاز الإدارى للدولة بضخ دماء لم يطلها الفساد، بل إن احتمالات إصابتهم بآفاته يجب أن تكون فى أقل تقدير، وذلك من خلال فرض الدولة "رقابة لصيقة متوازنة" تمثل الرادع أمام من يفكر فى استغلال موقعه الاستغلال السيئ.
كذلك فإن الرقابة الفعالة للدولة يجب أن تشمل قطاعى الإعمال الحكومى والخاص، بطريقة تجعل من حقوق العاملين بها "الخط الأحمر" الذى لا يجب تعديه، وفى نفس الوقت لا تعطى للعامل حصانة ضد العقاب أن أهمل أو أضر العمل، وليكن الجزاء بقدر الفعل ودون تعسف، فحقوق العاملين فى مصر فى الوقت الحالى مهدرة ما بين "قانون العمل" الذى تم تفصيله تفصيلا ليعطى رجال الأعمال وشركاتهم الحق فى سحق العامل دون مساءلة، وما بين "مكاتب العمل" التى يضرب الفساد بجذوره داخل أدراجها، فتتجاهل العامل المنوط بها الدفاع عنه وحمايته فى مقابل الرشاوى المالية والعينية والامتيازات التى يحصلون عليها من أصحاب العمل ومن يمثلوهم.
ولاستعادة الثقة ما بين المواطن والدولة يجب تفعيل دور المواطن فى حد ذاته كمراقب يرصد الفساد والتقصير المتعمد من خلال الاحتكاك اليومى، بل يجب تشجيعه للتصدى لهذا الفساد من خلال توفير الطرق القانونية التى يلجأ إليها عند الضرورة، لأن المواطن دوما لديه عشرات الطرق "للضغط الميداني" التى يجب أن تسعى الدولة لتجنبها لأنها تعطى انطباعا لدى شرائح أخرى أكبر بضعف سيطرة الدولة على أجهزتها، وتؤدى إلى رفض المواطنين لسلطة الدولة.
إذا تمكنت الدولة من ضرب قيادات الفوضى، والسيطرة وفرض سلطتها على أجهزتها سنأتى فى النهاية إلى نتيجة واحدة وهى الترابط بين الدولة والمواطن لشعوره أن الدولة حققت له ما يسعى إليه وهو العدالة.
