مصطفى جمال إسماعيل يكتب: أم محمد.. سر المرأة ذات العباءة السوداء

الجمعة، 17 أغسطس 2012 07:53 م
مصطفى جمال إسماعيل يكتب: أم محمد.. سر المرأة ذات العباءة السوداء صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا أعرف أكان القدر أم المصير!
ألتقى القدر للوهلة الأولى مُنذ سنتين عند رجوعى شبه المتاخر يومياً .. بحثى عن القراءة والصحف قادنى باتجاة بائعة الصحف العجوز تتخذ مجلسها الوثير يومياً فى الساعة المحددة لتبيع الصحف المُعششة بالأفكار المخملية لكتاب النخبة!

لا تختلف الأيام.. الفصول.. الأجواء فى كل يوم ستجدها بانتظارك ليلاً كالأم الحنون التى تنتظر أبناءها المُثقلين بالهموم.. بابتسامتها البسيطة وهمتها الفريدة تمحو فى ثوان أى حزن أو قلق.. كان من الصعب على أن لا التهم المزيد عن شخص كهذا.. مع الوقت توطدت علاقتنا أكثر فأكثر أصبحت أثُقل خطواتى المتسارعة عامداً متعمداً أمامها حتى أعرف عنها أكثر، فشخصيات صادقة مثل تلك لن تجدها كثيرا فى عالمنا عالم النفاق.

المُجمل الاسم "أم محمد".. السن لا تعرفه لكونها لم تُخرج بطاقة يوماً لكنها تشعر أن عمرها تجاوز الخمسين ربيعاً زوجها الفلاح توفى منذ سبع سنوات بأمراض الكليتين المؤلمة تاركاً لها عشرة أبناء فى فترات المراهقة المخيفة.. لم تبتئس "أم محمد"، وتبكى على أطلال زوجها الفقيد، رثته فى التراب على أمل اللقاء فى جنة الأتقياء والفقراء، حيث لا مكان للظلم ولا القهر..

انتقلت للعاصمة تاركة أبناءها لدى شقيقتها الأرملة فى القرية الفقيرة على أمل العودة كل حين، وآخر لتسليم حفنة الأموال الضئيلة لإطعام الأفواه الجائعة.. استقرت فوق أحد الأبنية فى غرفة لا تتجاوز أمتارها الثلاثين.. الإيجار عشرون جنيهاً شهرياً.. لم تنشغل أم محمد ببريق العاصمة فهى كما تقول دوماً (مش لينا).

من اليوم التالى بحثت فى كل مكان عن عمل يُطعم أبناءها الثكالى، اليوم يبدأ من العاشرة صباحاً تنزل لتمر على الأبنية حاملةً معها جردلها الملون لتمسح آثار الأحذية الفارهة على السلالم الرخامية الشكل، عندما يحل المساء تذهب لمنزلها الوثير واضعة ما حصلته من أموال الصباح المرهق لترتاح سويعات قليلة ثم تبدأ الرحلة الثانية، حيث تأخذ الصحف والمجلات من الموزيعين لتفترش مكانها المفضل بجوانب مترو الأنفاق.. لتبيع الجرائد لزبائنها المُعتادين أمثالى وكم هم كثر!..

وما إن يأتى الفجر حتى ترحل مع نثرات قليلة من الصحف المتبقية، لتعود لراحة إجبارية لتستطيع مواصلة عملها فى اليوم التالى.. فى نهاية الشهر تشد الرُحال لأبنائها فى القرية المتواضعة حاملة معها الأموال، بل قل الآمال الضئيلة فى التعليم والحياة!.. وتشتعل الثورة ويتأثر عمل أم محمد بشدة فى وسط المدينة المُتخمة برذاذ دماء الشهداء.. ليتقلص دخلها المتواضع للربع.. لا أدرى لماذا وقتها قررت أن أعرف رأيها فى الأحداث الملتهبة.. على توقع أن أسمع عبارات طنانةً غاضبة.. ولكن "أنا معاهم فى ظلم كتتير ربنا ينتقم من اللى أفقر الناس"، فاجأتنى إجابتها رغم تأثرها بالسلب بالأحداث، ولكن حقا كما يقولون لا يشعر بالظلم إلا من عاشه!

ليتنحى مبارك وتنجح ثورتنا السلمية المباركة لأشاهدها فى لحظة كالألحان السريالية تردد بنبرة عفوية مُعمقة "بقت بتاعتنا..بقت بتاعتنا".. هكذا قالتها أم محمد وكم روت ثورتنا قلوب ماتت فى عشق بلادها.. ويأتى القدر وتصاب أم محمد بأمراض الكُلى، وكأن القدر يكرر لعبته الأليمة بعد شريك رحلتها، لتكتفى بعملها المسائى هربا من آلامها المبرحة صباحاً.. ليتفشى الفشل الكلوُى بين ضلوعها وتزداد آلامها حتى دخلت فى عالم العبق الألهى المُسمى مجازاً الغيبوبة.. ليأتى اليوم باحثاً كعادتى على الأم الحنون المعلمة.. أين هى؟.. أين ذهبت؟.. ما بها؟ تتوارى الأسئلة هرباً منى أذهب لمكانها المُحبب لأجد روائح الموت تنبعث بين جنبات الحوائط. .ضوء طفيف يبرز بين الهواء، وكأن روحها تأبى أن تبتعد عن حياتها فى بقعة الطريق.. اليوم تترك مكانها المفضل.. تترك أولادها.. تترك الآلام والأحزان.. تترك مريديها مُدمعى الأعين وراءها كولى الله الصالح.. اليوم تبُكيها لقيمات الجرائد التائهة فى غرفتها الوثيرة.. اليوم تلحق بفلاحها النبيل وراء الثرى فى جنة الفقراء، حيث جزاء الصالحين.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة