كان العبقرى أمل دنقل (١٩٤٠ -١٩٨٣) من الناحية الإنسانية، نجما عابرا لمع فى أوساط الأدب العربى، مر كأنه مسافر غريب ما أن لمح البشر نوره حتى أفل.. أما من الناحية الإبداعية، فقد كان حالة متفردة صنعت عالماً من الإبداع، أرسى بها قواعد جديدة للشعر العربى الحديث.. خرجت من تحت قبتها أجيال من الشعراء، كانوا من فرط إحساسهم بروح أمل دنقل فى داخلهم، يسبحون ضد التيار كما فعل أمل دنقل نفسه حتى وإن تغير الواقع الذى يعيشون فيه.. فلم يكن أمل دنقل - فى رأى - أميرا لشعراء الرفض، كما وصفه النقاد، و إنما كان "روحا أبدية الألم" كما وصف هو نفسه بنفسه:
من قال لا فلم يمت
وظل روحاً أبدية الألم
أخرج أمل دنقل بأشعاره أقوى مشاعر رفض الهزيمة فى النفس المصرية إبان هزيمة ٦٧.. ورفع بأشعاره راية العصيان فى وجه الانحناء والتكيف مع واقع الانسحاق تحت عجلات الانهيار النفسى والعسكرى والسياسى الذى أصاب مصر فى تلك اللحظة.. ومن عجبٍ أنه بقدر رفضه للهزيمة، فقد رفض الاحتفال بنصر أكتوبر والفخر به فى أغنيات مطولة - كما فعل معظم شعراء عصره - فقد كان النصر بالنسبة له هو الحالة الطبيعية التى لا تستحق الاحتفال، فالهزيمة هى الاستثناء فى قانون الروح الحرة .. وبنفس المنطق يخرج بعدها بأقوى مشاعر الرفض للتصالح مع العدو المنهزم.. لتصبح رائعته "لا تصالح" صرخة حق فى وجه محترفى السياسة، ولحنا جنائزيا ينعى فيه من مات من أجل تحرير الأرض، وكأنهم قد ماتوا فى تلك اللحظة فقط:
إنها الحرب.... قد تثقل القلب
لكن خلفك عار العرب
لا تصالح ولا تتوخ الهرب
لا تصالح على الدم حتى بدم
لا تصالح ولو قيل رأس برأس..
أكُل الرؤوس سواء؟
أقلب الغريب كقلب أخيك
..................
...................
واغرس السيف فى جبهة الصحراء إلى أن يجيب العدم.
لقد أبدع أمل دنقل فى استلهام التراث العربى فى أشعاره، بصورة لم يسبقه إليها أحد.. فعل ذلك، فى وقت غرق فيه الشعراء فى الميثولوجيا الأوروبية بكل أطيافها، مبهورين بالقصيدة الغربية معناً ومبنى.. فجاء أمل دنقل ليضع الأمور فى نصابها، ليستلهم الأسطورة العربية و التاريخ العربى.. والأنساق الدينية من الكتب الدينية الإسلامية و المسيحية.. فأصبح قاموس أمل دنقل متفردا بمصطلحاته (زرقاء اليمامة - العهد الآتى- حرب البسوس)، وأسقط على كل منها واقعاً مصريا جريحاً مؤلما فى ذلك الوقت، فأصبحت النصوص وأبطالها تتحدث بلسان واقع أمل دنقل، وتشدوا شجوا بكل ما آلم بالمصريين والعرب فى ذلك الوقت.. ولم ينكر أمل دنقل انتماءه للتاريخ المصرى القديم، فجاءت مجموعته الشعرية الأخيرة "أوراق الغرفة رقم ٨" انعكاساً لذلك الضوء الفرعونى فى داخله فظهرت إيزيس وأوزوريس وحورس.. ولأنه فى تلك اللحظة كان يستحضر موتاً أيقن باقترابه، فقد ظهرت رحلة رع- إله الشمس عند الفراعنة- فى أشعاره، وكأنه يمهد لانتقال جسدى وروحى إلى العالم الآخر كى يستريح من معاناته مع مرض السرطان.
ورغم إيمان أمل دنقل بانتمائه العربى، قلبا وروحا، تاريخا ولغة.. وحتى من حيث المولد، فقد كان أبوه الشيخ محارب دنقل شيخا وعالما أزهريا، أقول رغم انتمائه للثقافة العربية، إلا أنه كان قادرا على التوغل فى روح المقاتل الباحث عن الحرية، باحثا عنها فى أى بقعة ضوء من التاريخ الإنسانى.. لتأتى قصيدته "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" لطمة فى وجه الظلم و الاستعباد، ودعوة عالية الصوت، حادة النبرات، ساخنة الدم من أجل كسر القيود والقتال من أجل الحرية.. سخر فيها - وبكل مرارة - ممن قبلوا العبودية إلى الحد الذى باعوا فيه دم من قاتل من أجل حريتهم.. فهم قد ألفوا القيود.. وأصبحوا غير عابئين إلا بالبقاء على قيد الحياة حتى ولو بلا كرامة.. لتصبح صرخته القوية فى وجه كل من احترفوا صناعة القياصرة صفعة تاريخية على كل الوجوه الذليلة ليترك لنا خلاصة تجربته:
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت
قيصر جديد
وأحلام بلا جدوى
ودمعة سدى..
رحم الله أمل دنقل.. فقد امتلك روح الشاعر.. وقلب زرقاء اليمامة.. ليرى بقلبه - فى حالته الشعرية- ما لا يراه غيره من محترفى النفاق وأشعار المناسبات.
الشاعر أمل دنقل
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
يحيي رسلان
تزييف