"ينتظرون دموعه" قصة جديدة لعمار على حسن

الأربعاء، 15 أغسطس 2012 11:13 م
"ينتظرون دموعه" قصة جديدة لعمار على حسن د. عمار على حسن

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يبك عليها وهي تغيب أمام عينيه تدريجيا حتى انطفأت شمعتها إلى الأبد. لم تنجب ولدا فاعتبرته ابنها، وأخذته من أمه التي هي ابنتها. الجدة العجوز تهدهد سكرات الموت وهو إلى جانبها لا يفعل شيئا سوى التحليق في سقف الغرفة الضيقة، وترويض العجز التام والفادح.
ورآه الناس على حاله فتعجبوا وهم الذين توقعوا أن يأتي من سفره مولولا كالنساء حين أخبروه أنها ترقد مريضة وتريد أن تراه.

ومن خلف ظهره قال صاحبه للناس حتى يكفوا عن أسئلتهم التي لا معنى لها:
ـ شدة الحزن تجف لها الدموع.
وراح يقنعهم أكثر بوجهة نظره، من خلال شرح القاعدة التي تقول: "ما زاد عن الحد انقلب إلى الضد"، ثم قال لهم:
ـ لو رأيتموه يضحك فجأة فلا تلوموه، ولا تتعجبوا.
لكنهم تعجبوا على حزن لم يكابدوه من قبل. أحدهم شكك في هذا التبرير، وقال بلغظة:
ـ طول الغربة أنسته أعز أهله.
لم يكن هو يدر شيئا عن هذا الغمز واللمز وهو ساهر طوال الليل إلى جانبها وهي تحتضر، قلبه موجوع، ولسانه صامت، وتقتحم أذنيه ثرثرة النسوة اللاتي جئن لتوديعها. تكلموا طويلا عن حالتها التي كانت على ما يرام قبل يومين، وكيف رآها أهل القرية جميعا وهي تستقل عربة ربع نقل مع الذاهبين إلى مدينة المنيا لدفع فلوس السلع التموينية؟ وكيف وقفت بالأمس فقط ساعات طويلة في الدكان تبيع للناس من دون أن تظهر عليها علامات المرض؟
غسلتها صديقة أيامها وكفنتها، ووضعوها على الخشبة، لينطلقوا بها إلى مدافن العائلة شرق النيل. كل ما فعله هو أن رفع الغطاء عن وجهها الساكن وطبع قبلة على جبينها، وقال لها في تأثر:
ـ مع السلامة يا أنبل وأغلى الناس.
وشفع له ما فعله عند البعض، لكن هناك من رآها لمحة باهتة لا تكفي لوداع من تربى في حجرها، ولا ترقى لتوقعاتهم التي أطلقوها وهم يخبرونه بمرضها في حذر. قالوا له مريضة وحالتها مطمئنة، وتريد فقط أن تراه لأنها اشتاقت إليه. خافوا أن يطلعونه على الحقيقة فينهار. هكذا اتفقوا قبل أن يرن هاتف مكتبه، ويأتي إليه صوت أحدهم ليسأل السكرتيرة:
ـ الأستاذ موجود.
عادوا من المقبرة فوجدوه جالسا على طرف سرادق العزاء ينتظر المواسين. فلما وصلوا إليه دفعوا أياديهم إلى يده، وجلسوا صامتين.
قبيل المغرب ظهرت في انحناء الشارع عربة كارو محملة بالسلع التموينية، وجاءه مختلطا بصهيل حصانه المجهد صوت العربجي يسأل أحد الصبية عن مكان الدكان. عندها هب من مكانه، وجرى إلى العربة كما كان يفعل وهو طفل.
يجري إليها حين تهل على أول الجسر المؤدي إلي القرية، فيرفعه أي من الرجال إلى جانب جدته، وهي تجلس فوق بضائعها والسعادة تنطق في وجهها. تمد يدها إلى كيس بلاستيك راقد بجوارها وتعطيه الحلوي التي أحضرتها له.
جرى اليوم لكنها لم تكن متربعة فوق عرشها الذي طالما انتفع منه الناس. جرى حتى وصل إلى الحصان فمسح على رأسه، ثم مد يده إلى طرف العربة الأيمن، وراح ينتحب ويجهش بصوت زاعق سمعه كل أهالي القرية.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة