جهزى دفعة الفطار وسخنة المغرب قرب يأذن دورك النهاردة، ماشىى بِلد بس روح أنت انده على حامد، وعماد، وباقى الرجالة علشان يفطروا، ويهم محمد فى تجهيز طعام الإفطار، وبجواره دفعته أحمد يمسك فى يديه كتاب الله ويرتل ما تيسر من آيات الذكر الحكيم، ليعطر فمه مبيت الجنود بكل حرف وآية من القرآن الكريم، فى حين يذهب علي. لإحضار باقى زملائه، هكذا كان لسان حال شهدائنا، يستعدون لتناول الإفطار فى يوم جديد من أيام شهر رمضان، شهر القرآن والشهداء، (ويجتمع الأبطال يجلسون الفخذ بجوار الفخذ)، وأمامهم حبات قليلة من التمر، وأكواب الماء الساخنة من لهيب شمس أصبغتهم بلون طمى حقولها، وآذان صغير لحبات عدسها وفومها وبصلها، يستمعون لصوت المجند أحمد، الشجى وهو يقرأ القرآن ويتلو قوله تعالى: "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين "َ .
الجميع فى انتظار الأذان، وها هو المؤذن يؤذن (الله أكبر – الله أكبر) الجميع يهمهم ويدعو فى سره (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت... ) واخذ كل منهم يستكمل دعاءه بما يتمنى فدعاء الصائم لا يرد، فيدعو حامد، بأن يوفقه الله فى زواجه القادم فى عيد الفطر وأن يبارك له فى زوجته، ويدعو عليِ، لوالديه وأن يقدره الله ويُعينه ويجعلهم يذهبون للحج، ويدعو أحمد، بالشهادة فى سبيل الله.. ثم يقيم أحمد، الصلاة ويصلون جماعة (الكتف ملاصق للكتف).
ويبدأ حراس الوطن وعيونه الساهرة فى تناول حبات التمر، نعم هى مليئة بالرمال ولكنها كافية لجرح صيامهم وتذكيرهم بما كانوا يفعلونه وسط أسرهم فى مثل هذه الأيام، الماء ساخن ولكنه ينزل فى جوفهم برداً وسلام، الطعام قليل وغير جيد ولكن يزداد قيمة ومذاقاً مع تلك " اللمه " التى سوف تنطبع فى عقولهم مدى الحياة يتحاكون بها مع ذويهم وأبناءهم بكل فخر.
وإذ فجأة يسمعون صدى طلقات رصاص، فيترك كل منهم ما فى يديه، ويخرجون مهرولين مفزوعين من دوى الطلقات الكثيف، الجميع يخرج جنود وضباط، يتخبطون بعشوائية وينادى كل منهم على الآخر هات السلاح، وبتلقائية ينظرون إلى الجانب الصهيونى، فهذا هو العدو الفطرى الذى يأتى من جانبه الخطر دائماً.
لم يظن أو يأتى فى مخيلة أحدهم أن تأتيهم النيران من خلفهم أو من أى مصدر آخر ملعون سوى المقابل لهم، ذو العين الزرقاء والشعر الأصفر والقلب الأسود.. ولكن.. يتوقفون فجأة عندما لا يجدون أى نيران تأتى من أمامهم.. وينظر أحمد، بجواره فلا يجد حامد.. فينظر للخلف فى سرعة ليجده طريح الرمال.. وتجحظ عيناه ويفتح فمه من هول المفاجأة.. ليجد أمامه هالات سوداء ممسكة بالسلاح الذى يخرج منه شرار الإثم والفجور.. وأصوات تنطق بلسان عربى جهور يخرج من جوف جحافل الجحيم لتردد بقسوة.. اقتلهم.. اقتلهم .. فيصرخ أحمد.. لا لا.. ويجرى أحمد مسرعاً لدفعته وصديقه حامد، الملقى على الأرض، فينهمر رصاص الغدر والخيانة ويتلقى أحمد فى قلبه رصاصهم وكلماتهم العربية، التى قتلته قبل أن يخترق الرصاص صدره.
ويتساقط حراس الوطن الواحد تلو الآخر، وهم يتدافعون لحماية كل منهم الآخر.. أحمد.. حامد.. على.. سيد.. إبراهيم.. مصرى.
وكما تجاورت (أرجلهم وأكتافهم وقت الدعاء والصلاة) تلاحمت أيضا أجسادهم وقت الشهادة، امتزجت دماؤهم الطاهرة الزكية لتروى بقعة مازالت عطرة بدماء أسلافهم وهم يجاهدون فى سبيل الله، أما هذه المرة فامتزجت الدماء وزُهقت الأرواح تحت أقدام مَن كنا نظن أنهم يعرفون الله.
تلاشت الرتب واختفت الأسماء والتحمت الأشلاء لتتجسد فى صورة وطن تبكى سمائهُ زخات دمٍ محموم.. وتأن نجومه من وجع قلبها المهموم.. ويخفت وميض قمرها المحزون.
يا حراس وطنى أعددتم مائدتكم الفقيرة... وارتضيتم الماء الساخن فى جوفكم بعد صيام، وتذوقتم حبات الرمال بتمرها، وشكرتم ربكم لقليلها.. فأبى غلاظ القلب فاقدو العقل والإيمان أن يروى ظمأكم، أو أن تسدوا جوعكم.. فشاء المنان الرحمن استشهادكم على الرمال منعمين بمغفرة رمضـان.. واختاركم الكريم من الخالـدين فى جنات النعيم.. لتدخلوا من الريان.. وترتاح أجسادكم بسكنى عليين وتنام.. وتروى عروقكم من كوثرها لتشربوا ولا تظمئون.. وبطوبى تستظلون.. من تينها.. وعنبها.. رمانها.. وطلحها.. وبلحها تأكلون.. إنها موائد الرحمن التى أعدت لكم فكلوا واشربوا منها فى أمان.. يا أصحاب العيون التى تبات تحرس ولا تنام.. إنها عيونكم التى لن تمسها النار.. وإنا ربكم لمنتقم من كل غليظ قلب جبار.. إنى أحبكم يا حراس وطنى يا إخوانى.
مجزرة رفح
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة