ظاهرة البلطجة ليست جديدة على مصر، وليست مرتبطة بالثورة، التى نجحت فى إسقاط النظام، فقد شهدت مصر قديمًا جماعات البلطجة، التى كانت تُعرف باسم "الفتوات"، والتى صورها الأديب العالمى نجيب محفوظ فى الكثير من رواياته، على أنها ظاهرة مقبولة اجتماعيا فى المناطق الشعبية والفقيرة، حيث كان الفتوة يعمل على نشر الأمن والنظام داخل الحارة، ويدافع عن حقوق الضعفاء تارة، ويستقوى عليهم تارة أخرى، ومهما كانت ظاهرة مقبولة إلا أنها غير قانونية فى نشر الأمن والدفاع عن الضعفاء.
وهذا يدل على ضعف النظام الأمنى وتغلغله دخل هذه المناطق، وبالتالى تتنامى ظاهرة البلطجة فى ظل غياب النظام الأمنى أو ضعفه أو عدم تمكنه من مواجهتها، وأحيانا أخرى فى حال استخدامه لها، والاستفادة منها لتحقيق أغراض فى خدمة النظام، كما كان يحدث فى عهد النظام السابق، حيث كان نظام مبارك حريصا على استخدام البلطجة كأحد أهم الأدوات لنشر الفوضى والتوتر وضرب المعارضين وإسكاتهم، والاعتداء على المتظاهرين أو إرهاب شخصيات بعينها، أو حتى إرهاب الناخبين لمنعهم من الذهاب للعملية الانتخابية، وما عرفت به من بلطجة سياسية، ولكنها على المستوى المحلي، لأن هناك بلطجة سياسية على المستويين الإقليمى والدولى.
ورغم قدم ظاهرة البلطجة، ورغم الأمل الذى كان لدينا لانتهائها عقب إسقاط النظام، إلا أن حالة ضعف الدولة فى مرحلة ما بعد الثورة، والتى تمر بها مصر الآن، أدت إلى تطور هذه الظاهرة، بل وتغولها، حتى أصبحت متكررة يوما بعد يوم.
وهذه البلطجة السياسية، كانت ولا تزال تتم، من خلال استخدام العنف، من جانب أطراف بعينها، من أجل فرض إرادتهم على الآخرين، وبالتأكيد تمثل انتهاكًا للقانون، مثل أعمال السرقة والنهب والاعتداء على الملكيات العامة والخاصة وإلحاق الأذى الجسدى بالآخرين، ومقابل ذلك إما أن يحصل البلطجى على مقابل مادى، كما كان يحدث قبل الثورة، أو يحقق أهدافاً سياسية لفئة ينتمى هو لها، كما يحدث بعد الثورة،، وإذا كان بعض أبناء مصر يحاولون تحقيق الديمقراطية، فإن البلطجة السياسية تعيق الديمقراطية الكاملة التى يتم السعى إليها، ومن خلالها يتم إرهاب شخصيات بعينهم لمنعهم من الترشح فى الانتخابات مثلا، أو إرهاب متظاهرين لمنعهم من الاحتجاج على قرارات السلطة، أو إرهاب الكتاب والصحفيين والإعلاميين والشخصيات المعارضة – سواء اتفقنا أو اختلفنا معهم- عن القيام بمعارضة النظام.
فالصراع بين الأطراف المختلفة، المجلس العسكرى وجماعة الإخوان المسلمين والفلول، فضلا عن التسابق بينهم لإسقاط الثورة ومبادئها وأية أهداف يمكن تحقيقها، قد أدى هذا الصراع، وهذا التسابق إلى ارتفاع درجات باروميتر توترهم السياسى، ودفعتهم إلى تقاذف الاتهامات والتهديدات، مع تجاهل تام للمطالب الشعبية المشروعة بالتغيير.
وحينما مارست جماعة الإخوان المسلمين السلطة فى البرلمان وبعدها فى الرئاسة، فقد أثبتت -دون أن تستغرق وقتا طويلا- أنها لا تتحمل المعارضة، وتريد القضاء عليها بأى وسيلة كانت حتى وإن استخدمت البلطجة فى العمل السياسى، لإرهاب الطرف الآخر وإقصائه عن المعارضة.
ولكن السلطة والجماعات التى تقف وراءها كشفت عن حقيقة الأسلوب الأمثل لها "البلطجة السياسية"، من خلال استخدام شباب تابعين لجماعات منظمة تُستخدم كميليشيات، تبعث برسائل غضب لمعارضى هذه الجماعات، وتُرهبهم بأقسى الطرق، وأكثرها وحشية، وهذا بالضبط ما حدث مساء الأربعاء مرتين، الأولى مع مجموعة من الإعلاميين والصحفيين أمام مدينة الإنتاج الإعلامي، والثانية مع المتظاهرين أمام القصر الرئاسى.
لست أحد أقارب الإعلاميين ممن تم الاعتداء عليهم، وليس لى متظاهر ممن تظاهروا أمام القصر الرئاسى، ولسُت خصماً للمجلس العسكرى أو لجماعة الإخوان أو للرئيس،، ولكنى لدى بعض الأسئلة المنطقية التى لا تزال تحتاج من الرئيس والجماعة والمجلس العسكرى الإجابة عليها، ومنها: لماذا قامت الثورة المصرية؟، من الذى قام بالاعتداء على بعض الإعلاميين أمام مدينة الإنتاج الإعلامي؟ ولماذا؟، لماذا لم يتم حماية المتظاهرين أمام القصر الرئاسي؟، هل الرئيس محمد مرسى أصبح مستقلاً بالفعل عن جماعة الإخوان بعدما أصبح رئيسا لمصر، أم أن الجماعة تعتبر وجوده فى السلطة، وجوداً لها، وقراراته صادرة عنها، والهجوم عليه هجوماً عليها؟، ولماذا علينا أن نؤيد السلطة وإلا نواجه "البلطجة السياسية"؟، وكيف نمنع أنفسنا من أن نشعر بالخشية وخيبة الأمل، حين يكون الخصم خصماً وحكماً ومراقباً فى ذات الوقت؟.
وعلى السلطة –منتخبة أو غير منتخبة- أن تُدرك أن حرية الرأى الصادقة المحترمة المحايدة التى لا تحمل صبغة اتهام لأحد أو دفاع عن أحد، لا تحمل سوى البحث عن حقيقة نحتاج لها جميعاً، وتحتاج لها مصر فى هذه الظروف، فمن حق أى مواطن مصرى أن يفكر ويسأل ويناقش ويتكلم ويعترض ويجد جوابا يناسب طريقته فى الاعتراض، بل إن الإعلامى والكاتب والصحفى تقع عليه المسئولية بشكل أكبر، ويتحمل عبئا أكبر، وليس لصاحب سلطة أن يُملى عليه أية آراء أو اتجاهات تخالف ضميره أو عقله أو مبدأه.
فالثورة أسقطت نظام، لكى تأتى بنظام، يحافظ على الحريات، ويحترم آراء الغير، ويستمع لمطالب الجماهير، ويحتوى المعارضة، أو ينافسها بالطرق المشروعة،،، فمن الطبيعى أن يجد أى نظام معارضة له، وليس للمعارضة مثلا أن تتغزل فى السلطة ليلا نهاراً؟!، فهذا ليس منطقى ولا يحدث فى الدول الديمقراطية أو التى تمارس المعنى الحقيقى لكلمة الديمقراطية،، ولكن الرد على المعارضة بأدوات التخوين والتشكيك فى وطنية المعارض، ثم حشد الرأى العام ضده، ثم الاعتداء عليه بالضرب أمر مرفوض.
فالفكر يواجه بالفكر، والكلمة بالكلمة، والقلم بالقلم، والحُجة بالحُجة، أما استمرار البلطجة السياسية، سوف يلقب الرأى العام، على النظام وعلى مستخدمها، وقد يؤدى إلى عواقب غير محمودة، ولن يتمكن حينما من استخدام هذه البلطجة مع الجماهير العريضة حين تحتشد لإسقاطه.
شهرت وهبه يكتب: النظام والمعارضة والبلطجة السياسية
الجمعة، 10 أغسطس 2012 04:03 م
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
Taghreed Aziz Mohamed
مقال راائع
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد رشدي
تحليل ممتاز
عدد الردود 0
بواسطة:
Tarik
بيان قوي
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد كامل
كلاكيت تاني مرة: مختلف تماما
عدد الردود 0
بواسطة:
تامر ممتاز
مقاله رائعه