يقول كارل ماركس: "التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى فى شكل مأساة والثانية فى شكل مهزلة" جال ذلك بخاطرى وأنا أقرأ ما كتبه الزميل نادر شكرى فى "اليوم السابع" بتاريخ 5 يوليو الجارى تحت عنوان: تأسيس جماعة الإخوان المسيحيين، وجاء فى الخبر: "أعلن نشطاء أقباط عن تأسيس جماعة الإخوان المسيحيين على غرار جماعة الإخوان المسلمين، وذكر أحد قادتها أن الجماعة ستقوم على الإعلان فقط مثل الإخوان المسلمين، ولن تقيد فى وزارة التضامن الاجتماعى مثلها مثل الإخوان المسلمين لأن الجماعة ستبدأ عملها فى توحيد الأصوات ودعم الكيان القبطى واللغة القبطية".
ذكرنى ذلك كباحث بحوار كنت قد أجريته فى عام 1994 مع الأستاذ إبراهيم هلال المحامى مؤسس جماعة "الأمة القبطية" لكى أضمنه كتابى "الأقباط بين الحرمان الوطنى والكنسى"، حينذاك قال لى هلال إنه أسس ذلك التنظيم 1948 على غرار جماعة الإخوان المسلمين إلى حد أنه استبدل شعارهم القرآن دستورنا بالإنجيل دستورنا، وذكر أيضاً هلال من أهداف جماعته توحيد الأمة القبطية وإحياء اللغة القبطية.
من الإخوان المسلمين للأمة القبطية
لمزيد من الفهم ننتقل من ماركس لأنجلز الذى قال: "إن تحليل ثمرة الجوز يعنى كسرها قبل فحصها"، وثمرة الجوز هى مصر فى نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، 1947 كان قرار تقسيم فلسطين، 1948 تقدمت حركة الإخوان المسلمين صفوف الكفاح المسلح ضد الصهاينة، وقدمت العديد من الشهداء، بعد الهزيمة عاد الإخوان يريدون السيطرة على نظام الحكم فى مصر، وانتهت هذه الأحداث بحل الجماعة من قبل النقراشى باشا، واغتالته الجماعة بعد عدة اغتيالات منها اغتيال المستشار الخازندار، وانتهى ذلك باغتيال الملك للإمام المؤسس حسن البنا.
إثر تلك الأحداث سرت مخاوف عظيمة فى نفوس المصريين عامة والأقباط خاصة، وتاهت أصوات الأقباط بعد إطاحة الملك بحكومة حزب الوفد (1944) بعد أن كان الحزب تولى الحكم على أسنة رماح الإنجليز فى 4 فبراير 1942 لتأمين الإنجليز لظهورهم أثناء الحرب العالمية الثانية، ولم يكن حال الكنيسة بعيدا عن حال الوطن، فقد كان البطريرك حينذاك هو يوساب الثانى والذى نصب بطريركاً فى 14 مايو 1946، وساد عصره الفساد، بحيث قال الأنبا توماس - مطران الغربية وسكرتير المجمع المقدس حينها - فى وصف خادم البطريرك "ملك جرجس" بأنه بطريرك غير متوج فقد فرض ضرائب على الكنائس والأديرة، وتدخل فى تعيين الأساقفة والمطارنة (صحيفة الجمهورية 23 سبتمبر 1955)، وأمام تعاظم هذا الفساد وازدياد الإرهاب الإخوانى فى الوطن، وحيرة الأقباط ومخاوفهم بعد خيبة أملهم فى الحركة الوطنية، ورغم أن جماعة الأمة القبطية بقيادة إبراهيم هلال كانت قد بدأت جماعة سلمية إلا أن فائض التطرف فى الوطن وفى جماعة الإخوان المسلمين التى أنشئت جماعة الإخوان على غرارها فإن الأمة القبطية اقتدت بها، فقامت 1954 بخطف البطريرك وإيداعه دير البنات وإرغامه على توقيع وثيقة بالتنازل، واكتشف الأمر وأعيد البطريرك وألقى القبض على الجماعة، وبمحاكمتهم انتهت جماعة الأمة القبطية.
مصر بعد ثورة يناير
ما أشبه الليلة بالبارحة، إذ تنتقل جماعة الإخوان المسلمين من الجماعة المحظورة إلى صدارة المشهد السياسى، وتحقق ما عجزت عنه بالعنف فى أربعينيات القرن السابق، فتنجح فى تحقيقه سلماً بالحصول على الأغلبية البرلمانية فى انتخابات مجلس الشعب 2011، ثم وصول الرئيس محمد مرسى لسدة الحكم.
وكان الأقباط قد خرجوا بالكنيسة للوطن بعد فاجعة تفجيرات القديسين 1 يناير 2011، وصولاً للمشاركة الإيجابية فى ثورة 25 يناير، إلا أن الرياح قد أتت بما لا تشتهى سفن الأقباط.
* 6 مارس 2011: حرق كنيسة الشهيدين بأطفيح وجرح حوالى 60 قبطيا، ولم يحاكم أحد.
* 9 مارس 2011: مقتل 13 وجرح 40 قبطيا فى أحداث طائفية بمنشية ناصر والدويقة بالقاهرة، ولم يحاكم أحد.
* 9 مايو 2011 اندلعت الأحداث الطائفية بإمبابة وحرقت كنيسة العذراء، وتم الاعتداء على كنيسة مارمينا، وقتل 6 أقباط وجرح 75.
* مايو 2011: مقتل قبطيين فى نزلة رومان بابى قرقاص بالمنيا ولم يحاكم أحد.
* مايو 2011: مقتل قبطيين بالفكرية بالمنيا ولم يحاكم أحد.
* 9 أكتوبر 2011: مقتل 27 فى أحداث ماسبيرو وجرح أكثر من 100، ولم يحاكم أحد حتى الآن.
وهكذا فى السبعة شهور الأولى من عمر الثورة قتل خمسون قبطياً (بمعدل 7 أقباط شهرياً)، وجرح 276 (بمعدل 40 جريحا شهرياً تقريباً).
وشهدت نفس الفترة لأول مرة فى تاريخ مصر حرق وهدم ثلاثة كنائس: الشهيدين بأطفيح، العذراء بإمبابة، المريناب بأسوان، ناهيك عن تكفير بعض مشايخ السلفية للمسيحيين ووصفهم المسيحية بأنها عقيدة فاسدة.
ورغم خروج الأقباط بالكنيسة للوطن ومشاركتهم فى الثورة ثم فى الانتخابات النيابية لمجلسى الشعب والشورى ثم انتخابات الرئاسة، فإن الأخطاء التى ارتكبها بعض رحال الإكليروس فى توجيه وتعبئة وحشد الأقباط فى المسار الخطأ وشبه الطائفى قد أدى إلى خيبة أمل قطاع كبير من الأقباط فيما يسمى الأحزاب المدنية، وتضافر مع ذلك ما سبق ذكره من إرهاب متأسلم، كل ذلك أدى إلى خيبة أمل النخب القبطية (المبتسرة) التى كانت لازالت خارجة توا من حضانة الكنيسة فأعمت المخاوف قدرتها على التحليل والرؤية الصائبة، فعادوا للخلف 45 عاماً وسلكوا طريق "الأمة القبطية" ثانية فى جماعة الإخوان المسيحيين 2012.
لكن كما رفض الأقباط المدنيين 1948 جماعة الأمة القبطية فإن الأقباط الثوريين رفضوا هذه الردة فى بيان صادر عن اللجنة المركزية للتوعية الوطنية بالإسكندرية جاء فيه: "بشأن الإعلان عن تكوين ما يسمى بالإخوان المسيحيين نعلن رفضنا وإدانتنا لهذا الفعل الطائفى الشاذ.. فمصر وطن المصريين جميعاً بكل تنوعهم الاجتماعى والدينى والثقافى وإن برزت فيها فى العقود الأخيرة جماعات دينية بدعم أطراف عديدة لها مصلحة فى تديين الشرق الأوسط كله كى يتناغم مع وجود إسرائيل كدولة دينية يهودية، مما يحتم علينا مسلمين ومسيحيين أن نعلى الشأن الوطنى وأن نقاوم التوجه الطائفى الذى يهدد كيان مصر من أساسه.. والدفاع عن المضطهدين المسيحيين لا يكون بكيان طائفى شاذ بل يكون بدعم الكيانات المدنية الموجودة التى تدافع عن المضطهدين مسلمين ومسيحيين.
ولا غرابه فى أن تنبرى كيانات طائفية مشابهة لتكون أول المهنئين لهذا الكيان الطائفى الشاذ لأن ما يسمى بالإخوان المسيحيين هو الكيان الوحيد الذى يمنحهم شرعية حقيقية. ولا غرابة أيضاً فى أن نجد أجهزة الدولة ترحب بهذا الكيان الشاذ لكى يبدو المشهد متسقا ولكى تتوه المواطنة وسط صراع جديد يدخل الساحة، كما أنه لابد من التشديد على أن إنشاء هذه المنظمات يخالف التعاليم المسيحية ولا يستند على أى مرجعية دينية. المسيحيون المصريون والكنيسة القبطية الوطنية ترفض بشكل واضح الكيانات الطائفية وتتبرأ منها وتدعم التيارات المدنية التى تجمع المسلمين مع المسيحيين لبناء وطن طالما اشتاق أهله إلى الحريات والكرامة والعدالة".
انتهى البيان ولكن الذى لم ينته هو تنبؤ كاتب المقال بظهور ما اسماه فى أغسطس 2011 بالمسيحية السياسية، وأشار إلى أن هناك تيارين داخل المسيحية السياسية تيار مدنى مرجعيته المواطنة، وتيار دينى طائفى قائم على سير الضحية على خطى جلادها، فالأمة القبطية 1948 والإخوان المسيحيين 2012 يتبعون صراحة جلادهم فى كل شىء، وبعيداً عن نظرية المؤامرة فإن ثورة 25 يناير قد أحدثت فى الأوساط المسيحية منطلقين أساسيين:
أولهما: الخروج بالكنيسة للوطن، ولكن ذلك لم يرق بعض النخب القبطية من الإكليروس المتنفذ أو كبار رجال الأعمال والذين ترتبط مصالحهم بجدلية اقتسام السلطة بين حكم الحاكم المطلق للوطن وحكم الإكليروس المتنفذ بشكل مطلق للكنيسة، ولا فرق عند هؤلاء بين مبارك ومرسى، وليس أدل على ذلك أنهم بعد أن قادوا أغلبية الأقباط لتأييد الفريق أحمد شفيق بشكل حماسى، هرولوا بعد هزيمته بذات الحماسة للتهنئة والترحيب بمرسى من أجل حبس الأقباط تحت سلطتهم خلف أسوار الكنيسة.
ثانيهما: نقلت ثورة 25 يناير المجيدة المجال الحيوى للنشاط المطلبى القبطى من المهجر إلى الوطن مما أضر بمصالح كثيرين، ولذلك لم يكن غريباً أن نجد أن الجماعة الوليدة لم تنشأ فروعاً فى 16 محافظة فحسب، بل أيضاً فى أربعة دول ثلاثة فى أوروبا والرابع فى أستراليا أى العودة بمركز نشاط البيزنس المهجرى إلى خارج الوطن مرة أخرى.
وفى كل الأحوال يدفع فقراء وثوار الأقباط الثمن ويتاجر الآخرون بدمائهم الذكية.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
رضا
مقال رائع
عدد الردود 0
بواسطة:
باسم منير
تحليلاتك ممتازة كالعادة
عدد الردود 0
بواسطة:
مواطن
مقال ممتاز
عدد الردود 0
بواسطة:
michael
ممتاز
عدد الردود 0
بواسطة:
أشرف رمسيس
أبى