أدعوك لتركب معى سيارة نجوب بها الصحراء، وإذا رفضت فهذا حقك، أنا شخصياً لا أريد أن أركب سيارة وأسير بها فى الصحراء، ولكننى أردت أن أطرح فكرة كيف نسير؟ بالتأكيد سنجمع المعلومات عن الطرق وعن أماكن المياه والأماكن التى يسكنها البدو والتى فيها مراكز حكومية، وطبعاً الأماكن الخطرة، هذا وأكثر منه منطقى، ولكن إذا اختلفنا ماذا نفعل؟
حدث لنا ذلك ذات مرة، وتوقفنا ليقول أحدهم: نتجة يميناً، والآخر قال: بل يساراً، ولا أظن أن ذلك كان بسبب اتجاهاتهما السياسية، واقترح ثالث أن نعود لنتأكد من المسار الصحيح، وأخذ كل واحد يشرح ويدلل ويشير إلى الشمس بل اتجاه الرياح، وأحياناً إلى لون الرمل، ومضى وقت طويل، لاحظت فيه أن أحداً لم يغير رأيه، ولم يسمع لبرهان من براهين الآخرين، لم يقل أحد للآخر: صحيح أن ما قلته عن كذا، لكن هذا ليس ما يصل بنا إلى ما نريد، الجميع قالوا: إن رأيهم هو الصحيح وبدونه نحن ضائعون ضائعون!
وكنت أنا وصديق آخر الصامتين الوحيدين، لأننا لم ندّع معرفة السير فى الصحراء، وإن كنا طعباً ندعى أشياء كثيرة! وفجأة خبط صديقى الصامت على جدار السيارة ليكسر الصمت، وقال بثقة شديدة تعجبت لها: نسير ثلاثة كيلومترات إلى الأمام، ثم نسير يميناً، حوالى خمس دقائق، وبعدها سأشرح لكم ماذا نفعل.
وبالطبع كنت شديد الإعجاب بصديقى، وأظنهم كانوا جميعاً معجبين به مثلى.
وكان صديقى على حق بدليل أننا هنا الآن، وها أنا أكتب ما أكتب بعد أكثر من عشرين عاماً، ولو كان قد أخطأ لكان هناك كاتب آخر يكتب كلاماً فى غالب الأمر أكثر أهمية!
وبعد إعجاب طويل بصديقى وحكمته سألته عن موهبته فى معرفة الطرق، فقال لى بعد سنوات: يا أخى لا موهبة ولا نيلة لقد رأيت أن كل واحد يتعصب لرأيه، ويرفض ما فى كلام غيره من حقائق، ولأننى لم أكن متحدثاً من البداية اخترت من كلام هذا وذاك ما أراه صحيحاً، ولم يكن هناك حل غير أن أفرض رأيى، وألقيت بالأوامر، وربنا ستر.
بالطبع لو كان أخطأ صديقى، وكان ذلك متوقعاً جداً لما كتبت ما أكتبه الآن، وربما سأل أحدهم الآخر هل يذكرنى فيقول له: عارفه مش محفوظ عبدالرحمن بتاع كلية العلوم؟ لا يا جدع. آه آه عرفته مش ده اللى كان فى قضية العادلى، عادلى إيه يا جدع ده آخر واحد كان يعرفه شاويش فى القسم!
لست بالطبع أدعو إلى الزعيم الملهم، فصديقى لم يكن ملهماً ولا زعيماً، بل أدعو إلى أن نرى الحقيقة أو بعضها لدى الآخرين، وأن تكون لنا غاية فيما نناقشه، غير أن نبدو أذكى الناس.
ويبدو أننا لا نعرف كيف نناقش، بل إنهم يعلموننا كيف لا نناقش.
أذكر فى أيام الدراسة كانت فى المدارس جمعيات الخطابة مع جمعيات المسرح والصحافة والفرق الرياضية وفلاحة البساتين، وعندما انضممت إلى جمعية الخطابة لإلحاح بعض زملائى، رشحنى المدرس للمناقشة القادمة، وهى: «ما الأفضل السيارة أم الطيارة؟» واختصنى وهو يبتسم بالطائرة التى من الممكن أن أشبعها كلاماً، لكننى اعتذرت وسط دهشة الجميع عن الطائرة، ولأننى عضو جديد وعودى أخضر عاد المدرس فوهبنى السيارة، ولكننى اعتذرت مرة أخرى، فرأى أننى معتوه، قلت له: دعنى أدافع عن السيارة والطيارة والقطار والدراجة والحمار وكل وسائل المواصلات فهى ضرورية للإنسان.
لكن المناقشة - أو الخطابة - هى تفضيل رأيك على رأى الآخرين، وإذا قال واحد: لقد أبديت رأيى لكننى اكتشفت يا زميلى أن السيارة أفضل واقتنعت برأيك، لو فعلت هذا ما استطاع أن يكمل دراسته فى هذه المدرسة.
يذكرنى هذا بشىء أعجبنى جداً فى الثقافة الألمانية، فبعد الحرب العالمية الثانية كانت البلاد مدمرة أكثر مما يستطيع إنسان أن يتخيل، وأيضاً وقعت تحت احتلال أمريكى أوروبى، واجتمع المسؤولون عن الخروج من فترة الدمار، وأخذوا يناقشون الأمور بالطريقة المعروفة فلم يصلوا إلى شىء، وعندئذ وضع أحدهم قواعد المناقشة، أولا عدم استخدام الكلام، كل واحد معه مجموعة «كروت» بيضاء وقلم، أنا أقترح كذا على الكارت وأدفعه لمن بعدى إما يكتب أنه موافق عليه، أو يشير إلى خطأ، أو فكرة أخرى.
وبعد فترة قصيرة كانت لديهم خطط واضحة أنهضت ألمانيا من كبوتها.
لقد عرفنا الحضارة الحديثة عن طريق رفاعة الطهطاوى، ذهب إلى فرنسا واعظا لأعضاء البعثة الخديوية، فرأى التقدم فى فرنسا، وتمنى أن يكون لنا بعض التقدم، وظل يكتب فى ذلك إلى آخر يوم فى حياته.
نحن مدينون بكل ما نحن فيه إلى الطهطاوى، ولكن ما حدث كان فيه خطأ كبير هو أننا اتجهنا إلى أوروبا وأعطينا ظهرنا إلى بقية أنحاء العالم.
فى نفس الوقت الذى عرّفنا الطهطاوى بما حدث فى فرنسا، كان خلفنا تجربة مهمة جداً هى التجربة اليابانية، ولو أننا التفتنا لاستفدنا الكثير، أول وأخطر ما كنا سنعرفه هو أن الخطأ الكبير تجاهل الحضارة، ولكن الخطأ الأكبر هو نقل الحضارة كما هى، لقد زاوج اليابانيون بين الحضارة الحديثة وحضارتهم القديمة، وهذا ما لم نفعله بل ما لم ننتبه له إلا بعد فترة طويلة.
وكان أروع ما فى التجربة اليابانية أنها أتت بتخطيط يابانى، أما نحن فدخلنا التجربة بلا برنامج، البعض يريد الفرنجة الكاملة، والبعض ضد كل ما يأتى من الغرب، وبعد اليابان جاءت تجارب كثيرة.
التجربة الكورية وكانت قد بدأت معنا فى الستينيات فى إنتاج أول سيارة، توقفنا نحن عند التجربة الأولى وأثبتنا أننا نستطيع صنع سيارة! وأغلقنا المشروع كله، فى حين أن كوريا أصبحت من أكبر دول العالم إنتاجاً للسيارات، ونحن الآن فى أزمة ثقافية، إذ تخنق بعض الاتجاهات الفن، وأتذكر عندما عرضت كوريا على المايسترو يوسف السيسى أن يقود الأوركسترا الكورى، واجتمعنا حوله، وبعضنا طلب منه ألا يذهب، لكنه كان سعيداً فى رحلته التى دامت سنتين على ما أتذكر.
وهناك أيضاً التجربتان الماليزية والهندية وقبلهما تجربة سنغافورة المذهلة.
وتأتى التجربة الصينية التى عندما بدأت لم نكن نصدق أنها ستصل إلى شىء، ثم وصلت إلى أنها تقترب من أن تكون الاقتصاد الأول فى العالم.
لقد كان من حظى أننى كنت فى روسيا مع سقوط نظامها، ورأيت كيف اندفعوا إلى بلاد العالم يطلبون الاستيراد منها، وكان معنا شخص لا يستطيع إدارة مصنع جبنة قريش، ومع ذلك كان جالساً فى غرفته والروس فى الخارج يدخلون إليه بالدور ليعرضوا عليه مشاريعهم وفى النهاية لم يفعلوا شيئاً ولا هو أيضاً.
صحيح أننى مهتم بالتجارب الشرقية، وأتمنى أن نلتفت ولو قليلاً إلى الشرق، فقد يكون هذا أكثر فائدة، لكننى ما كنت أكتب كل هذا لولا حدث عبقرى ليس فى الشرق بل فى أقصى الغرب.. فى البرازيل التى تندفع إلى التقدم.
فى البرازيل، كما فى كل بلد فى العالم سجون ومساجين، والدول المحترمة تهتم بأمر المساجين وتريد مساعدتهم ليخرجوا إلى المجتمع عناصر نافعة، وكل بلد قدم شيئاً فى هذا، لكن البرازيل وضعت مكتبة فى كل سجن، وكل سجين يقول إنه قرأ أربعة كتب تأتى إليه لجنة لتناقشه فيما قرأ، فإذا كان قرأ الكتب فعلاً، وإذا كان قد اختار كتبا لها قيمة، وإذا كان قد فهم ما فيها تسقط عاماً من مدة سجنه.
عندما عرفت ذلك صفقت، هكذا يكون الابتكار، وأنا لا أطلب تطبيق هذا الاقتراح لدينا، فالمساجين الذين أعرفهم، إلا ما ندر، يفضلون المؤبد عن قراءة كتاب.
لنفكر فى أشياء أخرى، هل مات الخيال؟!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد محمود المالح
المهم النجاح
عدد الردود 0
بواسطة:
م / أحمد
قائد العربة
عدد الردود 0
بواسطة:
وحيد
تمصير الحضارة .. هذا هو الطريق
عدد الردود 0
بواسطة:
باسم بقلظ
نجاح
هذا المقال روعة كبيرة