"فآمن له لوط وقال إنى مهاجر إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم" إنها الآية ٢٦ من سورة العنكبوت.... إنى مهاجر إلى ربى...... هجرة إلى الله لا إلى البشر.... هجرة فى النفس لا فى المكان..... هجرة قررها سيدنا لوط من أرض كثر فيها الفساد والعصيان ومحاربة فطرة الله بإتيان أحد أشد المعاصى على أوامر الله وهو اللواط..... إنى مهاجر إلى ربى رفضا لما كان من معصية وتكرار للمعصية وشيوع المعصية، وإصرار على المعصية والتمسك بها وتبريرها والمجاهرة بها..... يقول لوط "إنى مهاجر إلى ربى" لا إلى أرض كذا ولا بلاد كذا ولا قوم كذا..... وإنما إلى الله.... إنها هجرة يقوم بها الإنسان فراراً إلى الله يطلب عونه ومساعدته وحمايته...... إنها الهجرة بالنفس وداخل النفس إلى الله ومرضاته بعيدا عن معصية تجلب غضب الرب.
إن التوبة عن المعاصى لم تكن أبدا أمرا هينا... فالمعصية حين تتكرر تتحول إلى عادة محببة يستعذبها الإنسان، ويجد فى داخله رغبة قوية فى البحث عنها وإتيانها والتمسك بها، بل وتبريرها لنفسه ثم قد يستمرئ المعصية حتى يجاهر بها ويبررها للآخرين، ويزينها لهم ليصبح حليفا للشيطان الذى لا يبيع المعاصى وإنما يبيع زينتها ومبرراتها، ويوجد للإنسان ألف سبب وجيه وربما فلسفى لإتيان المعصية..... وساعتها لا ينفع الإنسان إذا أراد توبة أى محاولات للإقلاع عن الذنب والتوقف عنه.... بل يجب عليه الهجرة إلى الله.... وهنا لا نناقش مفهوم الهجرة كما رآها المحدثون مثل جماعة التكفير والهجرة، بمعنى ترك المكان وترك الناس والانعزال فى الصحراء، وإنما نتحدث عن هجرة الذنب بالبعد عن مرتكبيه من أصحاب السوء والبحث داخل النفس عن أصل الذنب ومتى بدأنا بارتكابه وكيف استعذبنا طعم الذنوب.... وكيفية التوبة عنه والإقلاع عن ممارسته واستبشاع المعصية ونوعها، والمجاهرة بذلك ..... ورفض كل المبررات التى تزين تللك المعصية.... حتى يصل العبد إلى الخجل من الخالق الذى يعصاه وهو يراه، بينما يستخفى من الناس فيجعل الله أهون الناظرين إليه.... وهذا هو مفتاح التوبة... أن تجعل الله أعظم الناظرين إليك.... ولا يمكن الاستخفاء من الله، فالأرض أرض و السماء سماءه..... ولا مفر منه إلا إليه "ففروا إلى الله".
إنه الفرار إلى الله والهجرة إليه وترك الذنوب امتثالا لأوامره وتحببا وتقربا إليه، ابتغاء لمرضاته الكاملة وعفوه وليس فقط خوفا من عقابه..... إن الهجرة تكون عملا مخططا يقوم به الإنسان بهدف الانتقال من حال أدنى إلى حال أعلى.... وهجرة الذنوب هى أسمى أنواع الهجرة من عالم التراب والجسد الطينى إلى عالم النور والروح الملائكية.... يبتغى فيها العبد عيشا كريما يقدر فيه - ليس فقط على أن يسمو بنفسه - وإنما أن يسمو بمجتمعه ويكون مثلا أعلى يحتذى به فى الإيمان والعبادة والأخلاق فيسهم فى بناء مجتمع جديد قائم على القدرة على مجابهة النفس ورفض الخطأ واستنكاره ومحاصرته حتى لا يجد الخطأ له مكان فى هذا المجتمع، فإما أن يستقيم وإما أن يهاجر منه.... فتكون الهجرة إلى الله دافعاً إلى هجرة الباطل ونبذه من الأرض..... فلنهاجر بنفوسنا إلى الله ولنفرَّ إليه ففى ذلك صلاح مجتمع نبغيه طريقا إلى الجنة.
