يبدو أننا ما زلنا نفكر بعقلية ما قبل 25 يناير، حيث الفكر الإقصائى والمنحاز لطرف على حساب طرف آخر، جاحد ومتطرف من يتحدث فقط عن السلبيات والإخفاقات ويتجاهل النجاحات، لعل أبنائى الطلاب يتذكرون ما سبق، وإن كررته مراراً فى محاضراتى بأن الإنسان العاقل العادل البناء هو الذى يتذكر الحسنات كما يتذكر السلبيات، يتحدث عن الحسنات قبل أن يدخل فى الحديث عن السلبيات، فالأنظمة شأنها شأن بنى الإنسان لها ما لها وعليها ما عليها، والفارق دائماً عندما تغلب الحسنات على السلبيات والعكس صحيح.
ما ذكرته أعلاه ينطبق تماماً على ثورة يوليو، وما تمخض عنها من نظام حكم مصر على مدى نحو ستة عقود، ففى خلال العقود الأولى لثورة يوليو عاش الإنسان المصرى، وتحديداً الطبقة الوسطى والكادحة – التى خرج أغلبنا منها – أجل سنوات العمر، ولما لا وقد أشعره عبد الناصر بعظمته وكرامته، وهناك من القصص الكثير الذى يعبر عن تقدير السنوات الأولى لثورة يوليو للإنسان المصرى فى الداخل والخارج.
يحسب لثورة يوليو أنها أعادت للفلاحين كرامتهم المسلوبة، بعد أن تحولوا على يد الإقطاعيين، إلى أقنان أو ما يسمى بعبيد الأرض، بسبب مبادئ يوليو تعلم الملايين وتخرج آلاف الأطباء والمهندسين والمحامين والقضاة، بعد أن كانوا محرومين من نور العلم فى عهد ما قبل الثورة!.
أتذكر أننى فوجئت بما قاله لى عمى قبل وفاته بأيام، فقد قال لى بأن جدى يرحمه الله كان ممن وصفتهم فى مقالى بالأقنان أو عبيد الأرض، حيث كان يزرع فى أرض هيكل باشا، وهى أسرة الدكتور محمد حسين هيكل رجل السياسة فى عصر ما قبل يوليو، الشاهد هنا أن والدى يرحمه الله كان محباً للعلم، لدرجة أنه طلب من أبيه أن يدخله المدرسة، ونزولاً على رغبة والدى أدخله جدى المدرسة، والتى كانت مفتوحة آنذاك لأهل الحظوة من الأثرياء والباشوات، مر الباشا ذات يوم على الحقل، فوجد جدى وحده فى الحقل، قال له أين ابنك يا إبراهيم، رد جدى بالقول "لديه رغبة فى العلم يا باشا"، رد الباشا قائلاً، يبدو أنكم لستم مؤهلين لفلاحة الأرض، وعليه، عاد والدى إلى الحقل فى اليوم التالى، وحرم من حقه فى التعليم، لأن الباشا قرر قطع باب الرزق!!.
ولهذا، رأيت فى أعين والدى رغبته الجامحة فى تعليمى، واستعداده للتضحية بكل غالٍ ونفيس من أجل أن يرى فى ابنه حلمه الذى وأده الباشا الإقطاعى!! أبعد كل هذا ويأتى علينا زمن يخرج فيه حفنة من الأشخاص، ويحاولون تقزيم تاريخنا وحصره فى أخطاء ارتكبها النظام الذى ولد من رحم ثورة يوليو؟!.
بالطبع أنا لن أعدد حسنات يوليو، ولكن يكفى أن مصر بعد أقل من عقدين على ثورة يوليو استطاعت بناء قاعدة من الصناعات الأساسية التى أهملتها الأنظمة المتعاقبة، يكفى أن مصر بعد يوليو تبوأت مكانة مرموقة بين الأمم سواء على الصعيد العالمى عبر حركة عدم الانحياز أو الصعيد العربى عبر القومية العربية، أو على الصعيد الأفريقى، كما أننا وعلى يد قادة يوليو استطعنا بناء السد العالى بما له وما عليه.
ورغم كل تلك الحسنات، فأنا كإنسان معتدل لا أنكر ما عايشته مصر من سلبيات بعد يوليو 1952 سواء على الصعيد السياسى حيث هزيمة 1967، أو الصعيد الاجتماعى والدينى حيث ملاحقة التيارات الدينية وخاصة جماعة الإخوان المسلمين أو على الصعيد الاقتصادى حيث الفساد والتردى فى أواخر العهد الناصرى.
كما ذكرت، لكل نظام ما له وما عليه، وإن كنت أعتقد – ويعتقد معى الملايين – أن ثورة يوليو أعادت للإنسان المصرى كرامته، وخاصة الطبقة الكادحة، ومكنت الملايين من التعليم والرعاية الصحية، وحققت قدراً من العدالة الاجتماعية التى كانت مفقودة خلال عقود ما قبل 1952م، وليس معنى كلامى أن فترة ما قبل 1952 كانت سواداً محضاً فهى الأخرى لها ما لها وعليها ما عليها.
فى الختام، ما أود قوله هو أننا علينا أن نتعلم من الآن فصاعداً ألا نكون حادين أو صارمين فى أحكامنا على التاريخ أو الأحداث، علينا أن نتذكر الحسنات كما نتذكر السلبيات، علينا أن نكون منصفين حقاً إذا أردنا أن نبنى مصر الجديدة على أسس راسخة. والله أعلم.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
دعاء
رؤية نادرة يفتقدها الكثيرون