يسألنى ابنى الصغير: إحنا بنصوم ليه؟ .. فاجأنى السؤال فقلت: عشان الأغنياء تحس بجوع الفقرا.. قال: طيب الفقرا يصوموا ليه؟. فاجأنى السؤال من جديد .. هذا هو السبب التقليدى للصوم كما علموه لنا. وهو سبب غير صحيح.. لماذا نصوم، حتى عرفنا الإجابة إن الصوم فى حقيقته نوع من الحب. هو العبادة الوحيدة التى لا تظهر على صاحبها فى شكل طقوس أو حركات، ولهذا كان العارفون بالله يبللون شفاههم حين يخرجون على الناس صائمين، فالصيام صلة داخلية بين العبد والرب، لكن تحول الصيام بكثرة العادات والطقوس التى يمارسها المسلمون وكثير منها لا علاقة له برمضان، هذا بعض ما جاء فى كتاب الكاتب الكبير الراحل أحمد بهجت "مذكرات صائم"، الذى يتناول فيه أحوال الصائمين ويرصد سلوكياتهم بصورة ساخرة من خلال بعض القصص التى يرويها بهجت والمواقف التى يستحضرها عن رؤية الهلال، مدفع السحور، مدفع الأفطار، كيف يفهم الناس معنى "رمضان كريم"، صناعة الكحك وتاريخه، والجمعة اليتيمة وهى آخر جمعة فى الشهر الكريم.
يسرد الكاتب مجموعة من المواقف التى لا تحدث إلا فى رمضان، يرويها بلسان موظف حكومى يقول:
"والنبى لانت واكل طبق الرز ده.. حلفتك بالنبى، .. قلت فى سرى.. عليك الصلاة والسلام يا رسول الله. ومددت يدى إلى طبق الأرز المخلوط. بعدها توالت توسلات الأسرة أن آكل هذا النوع من اللحم، ثم أذق هذه القطعة من الدجاج. ثم أنثنى لهذه الصينية من الكنافة.. وفى كل مرة كان ذكر الرسول يتردد فى الحديث فأمد يدى بغير تردد.. وتذكرت وأنا أملأ معدتى كيف كانت زوجة النبى عليه الصلاة والسلام تعيش بالأشهر وهى لا توقد النار فى بيتها.. وكيف كان طعامه الخبز الجاف المغموس فى الزيت. وكيف عرف أحب خلق الله وأكرمهم هذا الجوع النبيل الذى يدفع المرء مباشرة فى قلب الوجود ويجعله يرق للعباد، ويحنو عليهم، ويشعر بأقسى آلامهم.
"رمضان كريم" ينتقد فيه بهجت تكاسل الناس عن العمل بحجة الصيام وترديد "رمضان كريم" ويتساءل "هل تحولت البلد إلى مجمع للزاهدين والصائمين الذين ألهتهم الآخرة عن الدنيا بكل ما تضمنه الدنيا من شوارع وأتربة ومطبات ومسؤوليات؟"، "ما أغرب أصنافا ممن ينتمون إلى الإسلام بالاسم"، هكذا نحن دائما.. نفكر فى شىء ونقول شيئا آخر.. نؤمن بشىء ونتصرف عكس ما نؤمن، ونتحدث بشكل لا علاقة له بهذا أو ذاك.. إذا تعلق الأمر بذنوبنا أقسمنا أن الله غفور رحيم، وإذا تعلق الأمر بذنوب الآخرين أكدنا أن الله شديد العقاب.
منافقون نحن أو معظمنا حتى النخاع، ومهرة فى الكذب على الآخرين، وأشد مهارة فى الكذب على أنفسنا. نرتكب ذنوبنا بفن عظيم. فإذا ورد ذكر الفضيلة فى الحديث ألفيت الجالسين جميعا أئمة فى الحديث ومشايخ، وتسأل نفسك إن كانوا جميعا بهذا الفضل فمن أين جاء اللصوص؟.
يقول الكاتب إن رمضان بغير الجلسة على مقهى الفيشاوى بالحسين بحر بغير سمك. هناك يشترى كل واحد منا مسبحة جديدة، وعصا، وقليلا من البخور، وفلاية من خشب الليمون تذكارا لمن نحب. الميدان الفسيح الجميل الذى كان يحمل مذاق قاهرة الفاطميين تغير، يباع كل شىء هنا سواء خطر لك على بال أم لم يخطر، حب العزيز يسافر من طنطا إلى الحسين احتفالا بشهر رمضان، وباعة السبح يكونون جيشا هائلا لو اصطف حول القاهرة لصنع ثلاثة وثلاثين صفا، والسبحة ليست من الدين ولكنها تقليد ووجاهة، إنها تخلع عليك صفة الرجل المحترم المتدين الفاضل الذى يصلى الفرائض ويصوم لربه ويعرف دينه، ويسلم الناس من أذاه، كان عدد المشايخ يكاد يقترب من عدد البيوت، وكل بيت فى رمضان يشرفه شيخ يقرأ القرآن. أما الذين لا يملكون القدرة على دعوة شيخ فكانوا يذهبون لحى الحسين، وهناك كانوا يجدون بغيتهم من سماع القرآن والإنشاد الدينى والتواشيح، وكان الفقاء يتبارون فى التغنى بمحاسن الشهر وفضائله، وكانت الأصوات قديما قوية مجلجلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة