البرلمان هو هيئة تشريعية تُنتخب بالاقتراع السرى المباشر من الشعب، وتمتلك وفقًا للدستور السلطة الكاملة فيما يتعلق بإصدار التشريعات والقوانين أو إلغائها، وكذلك مراقبة ما تقوم به السلطة التنفيذية من أعمال.
وقد استطاعت مصر الثورة لأول مرة فى تاريخها إنتاج هيئة تشريعية جاءت وفقًا لانتخابات أشاد بنزاهتها الجميع، ورغم ذلك، هناك من يريد إقصاءها لمجرد أنها جاءت بأكثرية إخوانية.
ما لاشك فيه، أن برلمان ما بعد الثورة أخفق فى أمور عدة باعدت إلى حد ما بينه وأهداف الثورة والثوار، ومن ثم أفقدته صورته كممثل للثورة ومعبر عن الميدان، التى لو كان قد انطلق منها لتغير الحال بلا أدنى شك إلى الأفضل.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن البرلمان المنحل أصدر عددًا لا بأس به من القوانين منذ بدء جلساته الأولى وحتى الأخيرة، جاءت جميعها فى صالح المواطن - منها على سبيل المثال- قانونى زيادة التعويضات لأسر الشهداء والمصابين بالعجز الكلى، وقانون تثبيت العمالة المؤقتة فى الجهاز الإدارى للدولة، وكذلك قانون الحد الأدنى والأقصى للأجور، وغيرها الكثير من القوانين والإجراءات، التى تعد بمثابة ترجمة حقيقية لمتطلبات ورغبات الشعب المصرى طوال العقود الماضية.
ويتضح من ملابسات موقعة عودة البرلمان، وجود رؤى ثلاث لكل واحدة أنصارها، فأصحاب الرؤية الأولى يعتقدون بأن الرئيس "مرسى" أحسن صنعًا بقرار عودة البرلمان، مؤكدين أن الرئيس لم يمس حكم الدستورية بشىء، بل كان فى قراره حريصًا على احترام القانون بدعوته لإجراء انتخابات مبكرة للمجلس خلال 60 يومًا من تاريخ موافقة الشعب على الدستور الجديد.
وبجانب احترامه لأحكام الدستورية، حسب وجهة نظرهم، يرون فى عودة البرلمان ضرورة سياسية لأمرين، الأول: أن السلطة التشريعية سوف تنتقل من المجلس العسكرى المعين إلى ممثلى الشعب الحقيقيين، والثانى: دوران عجلة التشريع لخدمة المواطنين، خاصة أن البلاد فى حالة شلل تشريعى يعيق أى تطور أو إصلاح.
وللحقيقة فإن نظام مبارك ترك وراءه تركة متخمة بالقوانين الفاسدة والمتضاربة؛ إذ تجد القانون ونقيضه فى ذات الوقت، الأمر الذى يحتاج إلى غربلة حقيقية من قبل ممثلى الشعب وليس من المجلس العسكرى (تسعة عشر عضوًا معينين)، لكل ما أفرزته مجالس مبارك الفاسدة على مدار ثلاثين عامًا.
وما يعضد أصحاب رؤية ضرورة عودة البرلمان، الإجابة على السؤال، أين كانت المحكمة الدستورية العليا عندما أُقر قانون الانتخابات البرلمانية؟، أليس نحن فى وطن تتضافر فيه الجهود جميعها، لاسيما بعد الثورة فى البناء؟
فى حين غاب عن أنصار هذه الرؤية ما لعودة البرلمان من حساسية شديدة بين القوى السياسية وبعضها البعض؛ إذ ينظر الكثيرون إلى أن الإخوان المسلمين استحوذوا على كل شىء فى الدولة (المؤسسة الرئاسية والتشريعية)، ومع أن استحواذهم جاء عبر الصناديق، إلا أن مقتضيات المرحلة كانت تتطلب منهجًا أكثر ليونة ومرونة ومشاركة عما هو متبع.
أما الرؤية الثانية، فيرى أنصارها أن قرار "مرسى" بعودة البرلمان، إهدار لقيمة القانون وسيادته، معتبرين أن الثورة جاءت لإعلاء قيمة القانون واحترام أحكامه، متساءلين كيف تبدأ الجمهورية الثانية بإهدار قيمة القانون على يد رئيس الدولة المنتخب؟ ورغم ما يحمله موقف هؤلاء من نبل يستحق التقدير والثناء، فإنه يوضح كيف تتبنى بعض النخب السياسية المصرية مواقفها؟، لاسيما أن القراءة الموضوعية والمتأنية لقرار الرئيس مرسى بعودة البرلمان قطعًا ستؤدى إلى تبنى هؤلاء لمواقف مغايرة لما تبنوها سابقًا (البرادعى وصباحى نموذجًا)، ولكن – للأسف الشديد – تعانى النخبة المصرية من خلل فى منظومة تبنى المواقف والدفاع عنها، إذ يتبنون مواقفهم دون دراسة منهجية للواقع بكامل مكنوناته الشعبية منها والثورية وكذلك الظرفية.
أما أنصار الرؤية الثالثة والأخيرة، فهؤلاء يرفضون قرار مرسى ليس من باب احترام القضاء وسيادة القانون كما يدعون ويهللون، بل تحقيقًا لهدف أعلى من ذلك، وهو إسقاط دولة الإخوان المسلمين المتجسدة فى شخص الرئيس محمد مرسى، فبتفنيد هذه الرؤية ستجد أنها تنقسم إلى طرفين، الأول: هم أبناء مبارك (الفلول) وما يمتلكون من ماكينة إعلامية تهدم كل ما يخرج عن المؤسسة الرئاسية، فى محاولة مبتذلة لهدم الرئيس ومشروعه، آملين بأن تعود دولتهم مرة أخرى.
ويتجسد الطرف الثانى بصورة كاملة فى كارهى التيارات الإسلامية، الذين يرفضون أى وجود للإسلاميين فى الساحة السياسية، ورغم تبنى بعض هؤلاء للديمقراطية كمفهوم إلا أنه فيما يبدو يقف هذا التبنى عند حدود المفهوم والنظرية، ولا يتخطاها إلى الواقع المعاش.
وأخيرًا يبدو أن المجلس العسكرى بمساندة الدستورية المستعجلة ونخبة مبارك، يمضى مسرعًا نحو تفريغ الدولة من مؤسساتها المنتخبة، فكلما تشكلت مؤسسة يتم هدمها، بدءًا بالبرلمان وحله بناء على حكم الدستورية العليا، مرورًا بالتأسيسية وتبكير البت فيها بالقضاء الإدارى من سبتمبر إلى يوليو، ومجلس الشورى المنتخب وإحالته للدستورية، انتهاءً بالمؤسسة الرئاسية المهددة هى الأخرى بالنسف؛ ففى حال عمل دستور عسكرى من المؤكد عدم إضافة مادة تُتيح للرئيس مرسى استكمال مدته الرئاسية.
وفى ظل رغبة العسكرى ومشجعيه فى البقاء داخل الحياة السياسية المصرية، ومحاولات الرئيس المنتخب لانتزاع صلاحياته كاملة يقف المواطن المصرى فى انتظار من ينتشله من دوامة عدم الاستقرار.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
موسى النجار
الدستورية المستعجلة
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الرحمن
تحليل ممتاز
عدد الردود 0
بواسطة:
ابراهيم
مقال متزن
عدد الردود 0
بواسطة:
هشام اسماعيل
كلام موضوعي جدا