طه أمين يكتب: صناعة الفراعنة.. نحن الأولون والمتميزون

الثلاثاء، 10 يوليو 2012 06:07 م
طه أمين يكتب: صناعة الفراعنة.. نحن الأولون والمتميزون صورة ارشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
توقف الأستاذ جيمس هنرى برستد فى كتابه الأشهر "فجر الضمير"، أمام مقدرة المصريين وريادتهم فى اختراع فكرة التدين وربطها بصناعة الآلهة، وبالرغم من أنه قد ربط هذه الفكرة بالمفهوم العام للأخلاق، التى استطاع المصريون تحويلها من إطار شعبى يضم العادات والتقاليد إلى مفهوم مطلق للتدين والتقرب من الآلهة والعمل الإيمانى والطقسى ليوم الحساب، الذى سيتوقف فيه الإنسان طويلاً ليثبت ورعه وتقواه وبراءته من أى ذنب نحو الآلهة ونحو البشر.

وجعل المصرى القديم "ماعت" - إلهة الحق والعدل- معادلاً موضوعيًا لعمومية الإخلاق والانضباط، حتى أن وجود الفرعون كان معادلاً لوجود العدالة وضماناً لسيطرة الانضباط، وغياب الفرعون هو النقيض من ذلك، فهو الظلم والفوضى بصورة مطلقة، وهنا برع الكهنة فى لعبة صنع الحاكم الإله، الذى هو ضمانه حياة سوية وآمنة للمصريين على مر العصور.

ومن الواضح أن هذه الفكرة قد استقرت وتجذرت فى الوعى الجمعى المصرى حتى أصبحت تشبه المكون الجينى الأول للبشر فى هذه البقعة من الأرض، فاحترف المصريون صناعة الألهة على درجاتها، بدءاً من الحاكم العام للبلاد وحتى شيخ الغفر فى أصغر قرية أو نجع، مروراً بكبار الموظفين ورجال الدولة، وصغار الموظفين ماداموا يملكون فى أديهم نفعاً أو ضراً فى الحياة اليومية والأعمال والأقوات، فالصقوا بالحاكم كل فضيلة وبمن يختلفون معه ألصقوا كل نقيصة، حتى أنقسم الكون المصرى إلى آلهة أبرار وشياطين أشرار، ولا مجال للبشر الذين يخطئون ويصيبون فى هذا البلد.

ولم ينافسنا فى صناعة الآلهة سوى الشرق الأقصى مثل الصين واليابان التى ظلت لزمن قريب تؤله الحاكم وتمنحه من الصفات ما لا يملكه البشر، فهو لا يأكل الطعام ولا يمشى فى الأسواق، وكان من فضل الأديان السماوية علينا أننا توقفنا عن عبادة الحكام، ولكن بقى إثر عبادتم فى الذهنية الشرقية متمثلاً فى المبالغة فى احترامهم، ورفض انتقادهم والاحتجاج ضدهم، وتحول مفهوم الاحترام إلى أمر بطاعتهم وعدم الخروج عليهم حتى وإن ظلموا، وتواترت الأقوال المأثورة من نوعية "حاكم ظلوم خير من فتنة تدوم"، وأصبح أمر طاعة الحكام صيغة غير قابلة للنقاش، بل وصار أمراً لا مقايضة فيه بين كرم الحاكم تجاه شعبه فى مقابل الطاعة، بل هو أمر طاعة للحاكم مادام يطيع الله فى الرعية، والحاكم دائماً مطيع لله فى ظل كهنوت يبرر كل تصرفاته ويضعها فى إطار من التقوى والتقرب إلى الله.

والحقيقة أن الحاكم لا يحتاج إلى إصدار أوامر بتأليهه، فالشعب -وبالأخص وسائل إعلامه- يتبرع بإظهار قدرته على صنع آلهة، بل ويمد قرون استشعار جاهزة دائماً لالتقاط أى إشارة يبدى فيها الحاكم رغبته فى أن يمتدح، فيلتقطون تلك الإشارة مضخمة فيرفعونه من مصاف البشر الاعتياديين إلى مصاف الآلهة المتفردة، كأن يظهر الحاكم بعض التقرب من أحد أفراد الرعية وتحيته أو ممازحته، أو أن يبدى شجاعة فى الاختلاط بالناس، لأنه لا يخشى على حياته منهم، وهنا تنطلق آلة صنع الإله فى العمل بنظام دقيق لا يخطئ، وبراعة مفرطة فى الدقة حتى لا يفتضح أمرها ولا ينكشف نفاقها، ولا يوقف هذه الألة إلا أمر واضح من الحاكم بالتوقف، وحتى هذا الأمر يتم استخدامه فى إسباغ صفة التواضع على الحاكم، تحسباً لبداية جديدة فى صنع الإله، عند أول فرصة سانحة للاستفادة منه والتقرب إليه.

والحقيقة أن الضمانة الوحيدة لعدم تأليه أى حاكم أو موظف كبير لا تكون مرتبطة -فقط- بالحاكم نفسه، وإنما ترتبط برقابه مجتمعية لا تسهو ولا ترحم، وترفض بشكل دائم أى مدح يقترب بأى صورة من الصور للنفاق، وتفضح كل من يقوم به، وتجعل من رفض تأليه الحاكم مبدأ لا تحيد عنه أيا ما كانت المبررات ومهما كانت الظروف التى تجلب المدح للحاكم، وعلى الحاكم نفسه أن يكون واعياً لما هو أى علامة من علامات ممالئته، فان قبول النفاق والممالئة هو أساس كراهية الشعوب لحكامها، وهو أول الطريق للهاوية ولو بعد حين.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة