والدى رحمه الله - رحل عن عالمنا فى مثل هذه الأيام من العام الماضى - كان له طقوس خاصة فى متابعة أخبار الدنيا وفى القلب منها أخبار أم الدنيا، والدى كان يعيش فى إحدى قرى الصعيد، قرية فقيرة أغلب سكانها مزارعون يملكون أكثر ما يملكون طيبة الفطرة وفطرة الطين الذى خلقوا منه قبل أن يتلوث بمبيدات وزراء مبارك، أذكر أنه فى الثمانينيات وحين كنت فى المرحلة الإعدادية بدأت تتشكل عندى قناعة مفادها أن الأخبار لكى تتأكد من صحتها عليك الخروج من صندوق "ماسبيرو وما يجاوره من مبانٍ" إلى ما هو خارج مصر كلها!!!
على رأس كل ساعة يأتينى أمر من الوالد: حوِّل لنا على إذاعة لندن يا ابنى علشان نسمع الأخبار!!!
كان يجول فى خاطرى وأنا فى هذه السن المبكرة.. لماذا إذاعة لندن؟ ولماذا نترك صوت العرب والبرنامج العام والشرق الأوسط ونشرة 9 م؟
إلى أن أصبحت إذاعة لندن بالنسبة لى طقوسًا حتى بعد أن وصلت إلى الأربعين الآن، لدرجة أن زوجتى لاحظت أننى أحيانًا أقوم بتشغيل الموبايل (إف إم) على إذاعة لندن فى عصر الفضائيات المفتوحة والإنترنت.. يبدو أنه أصبح إدمانًا لدى وحتى حينما أستقل السيارة الآن لا بد أن أدير المؤشر على إذاعة لندن على رأس كل ساعة !!!
فى عام 1990 أذكر أن خبر دخول صدام الكويت أول ما عرفناه كان من إذاعة لندن.
فى عام 1992 خبر الزلزال كنا نستمع إلى الإحصائيات الصحيحة عنه من إذاعة لندن.
فى عام 2001 خبر البرجين شاهدناه على الجزيرة.
فى عام 2003 خبر دخول القوات الأمريكية وحرب واحتلال العراق كنا نشاهده لحظة بلحظة على الجزيرة!!
حتى الثورة المصرية تابعناها لحظة بلحظة ونحن خارج مصر فى أيامها الأولى على الجزيرة لحظة بلحظة.
والأكثر غرابة من ذلك وربما لا يصدقنى أحد.. أنه ذات مرة خرجنا من صلاة الجمعة فى منتصف التسعينيات حيث كنا نصلى فى مسجد قريتنا بالصعيد وسمعنا طلقات سريعة متتالية تأتى من بعيد ويبدو أنها من سلاح آلى فى قرية مجاورة، أتت الأخبار متناقضة، وعندما أدرنا مؤشر الراديو على إذاعة لندن بعد الحادث بنصف ساعة تقريبًا سمعنا الخبر يأتى بتفاصيل وأعداد القتلى والمصابين، فى الوقت الذى لم تكن فيه هناك أى أخبار عن الحادث قد أتت من أى وسيلة إعلامية مصرية.
طبعًا أقصد بهذا الحادث سفاح بنى مزار الشهير عيد بكر عبد الرحيم الذى قتل حوالى 56 برعاية الشرطة والذى سقط صريعًا بعد مطاردة فى عام 1998!!!
ملحوظة هذا الكلام ليس دعاية لإذاعة لندن ولكنه إمعان وتأكيد فى فقدان الثقة بكل من يعمل بالإعلام المصرى الحكومى والخاص المقروء والمسموع والمرئى.
لقد تشربت عدم الثقة فى الإعلام المصرى من الوالد رحمة الله عليه، فكانت قراءتى للصحف المصرية وخصوصًا القومية منها دائمًا ما يسبقها الحرص باحتمال الكذب!! ولقد كانت الأخبار الصادقة الوحيدة فى هذه الصحف هى صفحاتها الأخيرة، حيث أخبار الرياضة، أو صفحة الوفيات!!! وهذا ربما يكون هو السر وراء انتشار صحف الحوادث والرياضة وزيادة توزيعها على الصحف اليومية.
بحثت تاريخيًّا لماذا والدى كان يثق دائمًا فى إذاعات (بلاد الفرنجة) ولا يثق فى إعلام بلاده، ووجدت أن هذه العقدة تاريخية، فمنذ ثورة 1952 أصبحت عملية صناعة الكذب من أساسيات النظام فى مصر، فلقد التفّ حول الرئيس "الفذ" أكثر الناس نفاقًا وكذبًا فبدأ بصناعة عدو له داخل النظام (الإخوان) ثم أخرجه من النظام بفرية يذكرها التاريخ، وحاكم قادتهم وأعدم بعضهم، ولكى يكسب ثقة الشعب ويحول اتجاه هذه الثقة نحوه تعامل مع الفقراء بمبدأ الابتزاز، ومع المثقفين والأحرار بمبدأ القمع والتشويه والتنكيل، فكان لا بد له من آلة وماكينة تصنع له الكذب باحتراف حتى يصدقه الشعب المغلوب على أمره.
تصاعدت صناعة الكذب إلى أن وصلنا إلى الكذبة الكبرى فى نكسة 1967 حين خرجت علينا إذاعة "صوت العرب" من خلال مذيع النكسة الشهير "أحمد سعيد" وهو يدلى ببيانات التضليل على الشعب والتى كانت تأتى له من قادة النكسة.
البيان الأول: أسقطنا 30 طائرة.. البيان الثانى: أسقطنا 43 طائرة.. ثم الثالث.. ثم الرابع، لدرجة أن بعض الخبراء قالوا إن عدد الطائرات الإسرائيلية التى سقطت كان أكثر من تلك الموجودة فى إسرائيل (197 طائرة وقتها!!!!(
ثم أفاق الشعب المصرى بعد أيام قليلة على خبر النكسة وأنه لا طائرة واحدة سقطت للعدو، بل جميع الطائرات المصرية كانت قد تم تدميرها قبل أن تتحرك من مكانها.. وتم قتل أكثر من 20 ألف جندى مصرى دون قتال، إصابة العديد وأسر حوالى 6000 جندى بعضهم دفن حيًّا فى صحراء سيناء!!
من هنا أعتقد أنه اتجه أغلب المصريين إلى إذاعات الخارج لمعرفة أخبار بلادهم.
هل تعلَّم إعلامنا الدرس.. لا، بل ظل يكذب ويكذب.. بل تطور كذبه إلى أن أصبح صناعة لا يتقنها إلا هؤلاء الذين أمسكوا قلمًا أو جلسوا خلف ميكروفون أو أمام كاميرا وتجلت قدرتهم أثناء الثورة حينما صنعوا أفلامًا على مئات الآلاف من الشعب الذين كانوا موجودين فى ميادين مصر يصنعون تاريخًا جديدًا، وتجلت قدرتهم أكثر حين تحول هؤلاء من مناهضة الثورة والبكاء على الماضى للبس ملابس الثوار، وصنعوا ثوارًا يستضيفونهم فى استوديوهاتهم وعلى صفحات جرائدهم للتشكيك فى أغلبية الشعب المصرى والطعن فى هويته وذمة من لا يتفق معهم فى الرأى. أو التوجه.
وأنا يقينى أن إعلام الكذب هذا لن يتعلم إلا إذا تم تطهير مؤسسة الحكم من أدوات صناعة النفاق.. والإعلام سوف يتم تطهيره إذا تحولنا من مؤسسة الرئيس إلى مؤسسة الرئاسة، إذا تحولنا من إعلام الحكومة إلى إعلام الدولة، من إعلام النخبة إلى إعلام الشعب.
يا من أمسكت قلمًا أو ميكروفونًا، رفقًا بنفسك، ورفقًا بنا.
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ابو الشوق
اجمل ما قرات عن الاعلام المصرى فى حياتى .....
عدد الردود 0
بواسطة:
اسامة
........
استاذ خالد .. مليوووووووووووووووووون تحية
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
مقاله رائعة
مقاله رائعة جدا جدا
عدد الردود 0
بواسطة:
أيمن جمال مشيمش
رائعه استاذى الفاضل
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد سالم
اذاعة لندن ام الاذاعات
عدد الردود 0
بواسطة:
ايمان محمد البستانى
راااائعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري
تن تن تن !!! أعلنت ساعة !! بيج بن !! الواحدة تماماً !! بتوقيت جرينيتش !!
عدد الردود 0
بواسطة:
علي خاطر
تسلم ايدك
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الحميد خاطر
سر على بركة الله
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
حلوة
حلوة