د. محمد محسوب

المدنية والدينية والوسطية

السبت، 30 يونيو 2012 10:16 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مصطلح المدنية، لم يكن أبدا مصطلحا معروفا فى العلوم السياسية، سوى كونه مناقضا لمصطلح العسكرية، أو على الأقل محددا له، بينما استعمال هذا المصطلح كوصف للنظام السياسى كان ابتداعا مصريا خالصا للابتعاد عن جدلية العلمانية والدينية التى أرهقت أوروبا على مدار عشرة قرون، وجاء اصطناع هذا المصطلح ليعطى معنى مصريا خالصا لنظام سياسى يستند إلى المواطنة كأساس لتوزيع الحقوق والواجبات واحترام الحريات دون أن يداخل ذلك تمييز بين مواطن وآخر، ودون أن يضطر إلى استعارة مصطلحات غربية قد لا تنطبق تماما على الواقع المصرى.
ويكون مفتشا فى النوايا ذلك الذى يزعم أن بعضا من غلاة العلمانيين المصريين ابتكروا هذا المصطلح ليغطوا به محاولاتهم لفرض العلمانية، بمفهومها الغربى، على المجتمع المصرى، بل يخطئ من يحمل هذا الظن على كتفيه يجادل به ليل نهار، لأسباب عدة، ليس أقلها أن العلمانية الغربية ليست مفهوما واحدا ولا تطبيقا واحدا، فلدينا مفهوم العلمانية الفرنسية التى لا تستريح لتدخل الدين فى الحياة العامة مطلقا، بينما هناك علمانيات أخرى، وعلى رأسها الإنجليزية، والتى تتصالح مع الدين وتعتبره واحدا من أهم عناصر التماسك والإصلاح فى المجتمع، والمفهومان يؤديان إلى تطبيقات مختلفة، فأولهما، على سبيل المثال، حرّم تمويل المدارس الدينية من أموال الدولة، بينما الثانى لم ير مانعا من ذلك، بل لم ير مانعا من قبول أنظمة قضائية موازية للنظام القضائى العام للدولة فى مسائل ترتبط بالعقيدة، كمحاكم الأحوال الشخصية للأقليات الدينية، وهو أمر بمثابة الكفر بالعلمانية لو نطق به أحد فى الحياة الثقافية الفرنسية.
وكذلك يخطئ من يُسوّق لمفهوم علمانية المدنية بشكل مطلق، لأن ظروف نشأة وتطور العلمانية فى الغرب المسيحى لا تتوافر فى الشرق الإسلامى، ولم تنتج محاولة نقل التجربة إلا سيطرة للعسكر على الحياة الدستورية والسياسية فى دولة مثل تركيا ومحاولات مستمرة لاستعادة نفس التجربة فى مصر بعد ثورة يناير، بل لم يمنع فرض العلمنة الغربية على تركيا من رفض الغرب لها وعدم قبولها كعضو فى الاتحاد الأوروبى، لا.. بل أنهى جسيكار ديستان ذلك الجدل بقول أثير فى منتصف التسعينيات: «إن الاتحاد الأوروبى هو منظومة مسيحية من الصعب أن يقبل عضوا مسلما بهذا الثقل السكانى».
القضية ببساطة أن الجدل الثقافى المصرى خلال مائة سنة أنتج مصطلحاته الخاصة جدا، وكان مصطلح «المدنية» على رأسها ليقدم طرحا وسطيا بين المستمسك بالعودة إلى التاريخ ليستعيد ذات التطبيقات والرؤى السياسية للدولة والحكم، دون أن يجاوز فى قراءاته كتب الأقدمين فى نظام الحكم، وأولئك الراغبين فى نقل الصورة الغربية لنظام الحكم والعلاقة بين السياسة والثقافة دون نقد حقيقى أو محاولة لتهذيب تلك الرؤى للتوافق مع ظروفنا وتراثنا وثقافتنا.
وبالتالى كانت «المدنية» تعبيرا عن إمكانية التواصل مع التاريخ والحضارة الإسلامية بقيمها الراقية والتى لم تشهد تكريسا لمفهوم الدولة الدينية أو قبولا لها، وفى ذات الوقت بناء دولة عصرية بنظام سياسى حديث يتبنى قيم المواطنة وعدم التمييز والمساواة وتكافؤ الفرص، فالمدنية تعنى خلق نظام سياسى يتواصل مع تاريخ الشعب وثقافته ودينه، لكنه لا يحاول أن يستعيد هذا التاريخ بتفاصيله أو يستعيد نفس مفاهيم الحكم والسياسة التى كانت سائدة خلاله، وفى ذات الوقت لا تسمح بالانقطاع عن هذا التاريخ وتلك الحضارة أو الوقوف موقف المعادى لها أو المتبرئ منها.
ومن ثم تشمل المدنية جميع التيارات الوسطية التى تجعل مرجعيتها الإسلام وحضارته التى شارك فيها كل شعب مصر بكل تنوعهم الثقافى والدينى، دون أن تلجأ إلى تبرير أفعالها بنصوص دينية أو تضفى على اجتهاداتها السياسية أى نوع من القداسة، وتشمل المدنية أيضا التيارات الوسطية على الجانب الموازى، والتى لا تدعى مرجعية إسلامية أو ثقافية محددة، لكنها تقبل بثقافة المجتمع ودينه، الإسلامى أو المسيحى، كعناصر فاعلة يجب أن تُراعى فى السياسة والحكم، وكذلك يجب أن تُراعى فى التشريع والقانون، وتجعل خلق نظام سياسى حر وبناء ثقافى متسامح هو أغلى أمانيها.
وعلى النقيض من ذلك، يخرج عن مفهوم المدنية أولئك الذى يجعلون اجتهاداتهم السياسية لا تقبل الجدل لأنها ليست إلا تطبيقات، كما يعتقدون، لأوامر ونواهى دينية، ويسعون إلى وضع التاريخ أمامهم لاستعادة تطبيقه بتفصيلاته، لا من ورائهم كمصدر للإلهام والتواصل، ويخرج عن مفهوم المدنية أيضا أولئك الذين لا يرون للاجتهادات السياسية أى حاضنة ثقافية سوى ثقافات مستوردة غير متجذرة فى تربة الدولة المصرية، ويميلون إلى اقتطاع السياسة من سياقها الثقافى والتاريخى لهذا الشعب، ويفضلون أن يطبقوا تجارب الآخرين بحذافيرها، مهدرين تجارب شعبهم بتفاصيلها وثرائها.
ونحن فى لحظة بناء المستقبل والتوافق على دستور يعبر عن آمال الشعب المصرى وطموحاته، فإن على الغلاة من الطرفين أن يتراجعوا خطوة للخلف، ليتركوا لقيم المجتمع المصرى بوسطيتها وخصوصيتها أن تعبر عن نفسها، لكى لا يختفى صوتها وسط هدير جدل عالى النبرة، لكنه لا يؤدى إلا إلى خلق الضغائن وزيادة الشقة بين فئات المجتمع الواحد.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة