"اليوم السابع" ينشر قصة "غرفة تهزها الريح" للكاتب عمار على حسن

الخميس، 28 يونيو 2012 10:01 م
"اليوم السابع" ينشر قصة "غرفة تهزها الريح" للكاتب عمار على حسن الدكتور عمار على حسن

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى الرشفة الثالثة من كوب الشاى الساخن اقتحمت أذنى كلمته الجارحة. التفت فوجدت فمه مفتوحا عن آخره، وسبابته ممدودة إلى الأمام، ومقلتيه ثابتتين فى تحد، يكاد أن يتطاير منهما شرر، وقبالة ناظريه ترقد مساحة صامتة من الفراغ. كان واقفا فجلس، وسحب نفسا من الشيشة تاركا الدخان يخرج من منخريه، ثم أناخ رأسه على مسند الكرسى الخشبى المتهالك، ولاذ بسكوت، مغمض العينين، فعدت أنا إلى كوب الشاي، وشفطت الرشفة الرابعة.

عند الرشفة السابعة، كان بخار الشاى قد استكان فى البرودة التى زحفت على الكوب من غيمة السماء وظل الشجرة العجوز، وكان دخان شيشته قد خمد بعد أن توقفت القرقرة، لكن شخيره ارتفع وخالط زقزقة العصافير.

مرت ساعة تقريبا أثناءها مر النادل وسحب خرطوم الشيشة من يده، ثم رفعها، وألقى عليه نظرة شاملة، ومصمص شفتيه، وقال:
ـ الله يخرب بيت الستات.
وحين فتح عينيه تلفت حوله وراح يضع مقلتيه فى وجه كل واحد من الجالسين ويتفرسه مليا، ثم مد يده فى جيبه، وأخرج ورقة متهالكة متآكلة الأطراف، وراح يقرأ منها بصوت هامس. رميت أذنى إلى فمه، فتبينت بعض كلمات متقطعة تشى بأنها شعر أو نثر بليغ. ولما انتهى طواها على هيئتها ودسها فى جيبه، ثم نادى بصوت زاعق:
ـ شاى وحجر معسل سلوم.
عاد إلى الرشف والسحب البطىء وهو يهش غيمة دخان كثيفة تحوم على رأسه. وفجأة انفجر بردح وصراخ، وهو يعنف امرأة غير موجودة أمامه. ثم خلع حذاءه وراح يضرب الهواء، ويجز على أسنانه فتخرج كلماته محاصرة حبيسة ويقول:
ـ لازم أربيك أنت وعيالك يا بنت الكلب.
ورأى النادل الحيرة فى عينى فهمس فى أذني: امرأته جننته، خلعته وخطفت العيال وهاجرت، وقبلها سرقت أمواله.
ولما تهالك مكانه وكاد أن يسقط مغشيا عليه، قمت إليه أسند كتفيه، وأثبت جسده على الكرسى، لكنه فرد طوله، ثم قال فى انكسار:
ـ عاوزك توصلنى البيت.
وسرى خوف مباغت فى أوصالى، ونظرت إلى النادل أستنجد به، فتنحنح واقترب منى وقال مبتسما:
ـ لا تخف، هو رجل مسالم، حين يتعب يطلب منا أن نذهب معه، وكثيرون هنا رافقوه إلى المنزل، وأحسن ضيافتهم.
وتأبطته ورحنا نمشى على مهل وهو صامت إلا من أنات متقطعة تذوب فى أبواق السيارات وضجيج المارة ونداء الباعة الجائلين. وأمام مقر جريدة "المصرى اليوم" وعلى الرصيف المحاذى لحديقة "دار العلوم" توقف، وحملق فى عينى إلى درجة ارتجف لها قلبي، ثم مد يده فى جيبه، وأخرج الورقة وقال آمرا:
ـ اقرأ.
وجرت الحروف على لسانى فى صمت فصرخ فى وجهي: بصوت عالي، عاوز الدنيا كلها تسمع.
كانت قصيدة شعر بعنوان "الخائنة بنت الخائن" أطلت من أبياتها غير الموزونة ملامح امرأة متجبرة وعيال ضعاف وأب مغلوب على أمره. فلما انتهيت مد يده إلى ذقنى ورفعها حتى حلت عيناى فى عينيه وقال:
ـ حابسها فى البيت هى وعيالها. مالوا إليها فقلت كلاب أولاد كلبة.
لذت بصمت طويل فصرخ فى:
ـ ما رأيك؟
فقلت له دون تفكير: الجزاء من جنس العمل.
فسرت راحة فى ملامحه، فانبسطت بعد انقباضها الذى طال، وقال:
ـ أنت رجل عادل، ولذا ستكون الوحيد فى هذا العالم الذى سأسمح له برؤية الخائنة وعيالها الأشرار.
وانعطف بى فى شارع المواردى وسار حتى اصطدمنا بسور مترو الأنفاق بين محطتى السيدة زينب وسعد زغلول، ثم انكسرنا يسارا، وعند باب بيت قديم تهالكت جدرانه وقف، وقال:
ـ كان بيتى وسرقته الخائنة وباعته بيعا صوريا للسمسار، ولم تترك لى سوى حجرة فوق السطوح، تضربها الريح فتهتز وأخاف أن تطير.
ثم صمت برهة وعاد يقول:
ـ أتمنى أن تخلعها العاصفة وتلقى بها أمام عجلات المترو، فتموت الخائنة هى وعيالها المتواطئين.
وصمت مرة أخرى ثم قال بصوت مبحوح:
ـ الأفضل أن تموت فى قيودها من الجوع والعطش، ويموت معها صغارها الجاحدين.
وفكرت أن ابتعد عنه قليلا وأهاتف النجدة لتأتى فتنقذ المرأة وأولادها، لكنه سحبنى بشدة رجت جسدى فانزلق داخل عتبة البيت الذى بدا مهجورا، واقتحمنى هلع وحيرة، وفكرت فى أن أسحب يدى لكنه كان قد أطبق كوعه على كوعى.
انتبه لترددى فقال مشجعا:
ـ تعالى، درجات السلم سليمة، والدنيا نور.
وماءت قطة فمرق فأر مذعور من بين أرجلنا، وعوى كلب راقد بجوار السور وزعق بوق سيارة وصرخت سيدة فى البناية المجاورة فى وجه بنتها التى كانت تدلى رأسها من النافذة وسحبتها بعنف إلى الداخل، فقلت له مبتسما، وأنا أحاول أن أسحب ذراعى بلطف:
ـ دقيقة واحدة، هاشترى علبة سجائر.
نظر إلى برهة، ثم خلّى ذراعى، فسحبته وسرت متباطئا حتى ابتعدت عنه قليلا، ونظرت إلى الخلف فوجدته قد استدار ناحيتى، ولما بدا عليه أنه من الممكن أن يجرى خلفى إن شعر بأننى أفر منه، توقفت بالفعل أمام كشك السجائر، وكان صاحبه قد رآنى منذ قليل متأبطا ذراع الرجل، الذى نسيت أن أسأله عن اسمه، فقال لى مبتسما:
ـ يسكن سطح بيت مهجور آيل للسقوط، ويتخيل أنه متزوج ولديه أولاد يحبسهم وأمهم الخائنة، ولا ينوى أبدا أن يفرج عنهم، أو يترك غرفته التى تهزها الريح.





مشاركة




التعليقات 2

عدد الردود 0

بواسطة:

mohamed

احساس عالى

تسلم ايدك
بجد جميلة جدا واحساسها فوق الوصف

عدد الردود 0

بواسطة:

محمد الشواف

عمار الأديب

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة