ذات يوم كان اسم الفيلسوف الفرنسى روجيه جارودى مقررا على القارئ المصرى، فى صحافته اليومية والأسبوعية، كان ذلك حين تمت دعوته لزيارة القاهرة، احتفالا بكتابه «الأساطير المؤسسة لإسرائيل»، تبارت يومها كل جهة فى أن تعلن أنها صاحبة الدعوة والاستضافة.. وتنافست الصحف فى الفوز بإجراء مقابلات وحوارات خاصة مع جارودى.. وتبارى الصحفيون فى متابعته، وقامت «دار الشروق» بترجمة الكتاب ونشره باللغة العربية، وتعرضت وزارة الثقافة يومها للهجوم وانتقاد حاد لأن مؤسساتها لم تقم هى بالترجمة والنشر.
لم تكن هى المرة الأولى التى يتم فيها الاحتفاء بجارودى، حدث ذلك مرة سابقة فى الثمانينيات حين تحول جارودى إلى الإسلام، وسعدنا بذلك، إذ اعتبرناه انتصارا للإسلام وللمسلمين، خاصة أنه بعد اعتناق الإسلام، مطلع الثمانينيات تزوج من سيدة فلسطينية مسلمة.
قبل تلك التحولات فى أفكار ومسارات جارودى، كان هو معروفا فى أوساط المثقفين منذ أن كان ماركسيا، له العديد من الدراسات والأفكار المهمة.. لم يكن فى وزن معاصره جان بول سارتر، الفليسوف والكاتب المسرحى، لكن جارودى كان معروفا جيدا بين المثقفين والمتابعين المتخصصين فى الفكر الماركسى.
وفى السنوات الأخيرة أسدل ستار من النسيان التام عليه، لم تعد العواصم العربية ومثقفوها تتنافس فى معرفة أخباره وترجمة كتبه.. ولما مات نهاية الأسبوع قبل الماضى، لم تصدر كلمة عزاء واحدة له ولا تم الاهتمام بالحدث، على الأقل بتقديم الحدود الدنيا من المعلومات والمعارف للقارئ العربى والمصرى حول هذا الرجل فى سنواته وأيامه الأخيرة.
صحيح أن الاحتفاء بجارودى فى التسعينيات كان مبالغًا فيه والاحتفاء بكتابه «الأساطير المؤسسة» كان مبالغًا فيه أيضًا، هو كتاب مهم وجسور فعلاً، لكنه يعبر عن أزمة فى الفكر والضمير الأوروبى والغربى، هذا الضمير الذى سمح بمذابح اليهود والهولوكست الذى أقامه هتلر لليهود، وقبل هتلر، كان هناك اضطهاد أوروبى قديم لليهود. وفى إطار التخلص من اليهود فى أوروبا، كان المشروع الصهيونى بتجميع اليهود وإقامة وطن قومى لهم فى أفريقيا أو فلسطين وربما أمريكا اللاتينية، واستقر الأمر على فلسطين.. كان جارودى يعبر عن أزمة ضمير خاصة بأوروبا والغرب بأكثر مما يعبر عن قضيتنا الكبرى.. قضية فلسطين واغتصابها، لم يحدث فى التاريخ العربى والإسلامى اضطهاد لليهود أو عنصرية فى التعامل معهم، كانت بلادنا مفتوحة لهم دائمًا ودورهم فى الحضارة العربية الإسلامية معروف، بل إن الهجرات اليهودية إلى فلسطين فى القرن التاسع عشر بدأت بدوافع إنسانية وتم قبولهم لهذه الدوافع النبيلة.. أما «الهولوكست» فقد حدث. يتم الاختلاف على أرقام اليهود الذين تمت إبادتهم، وطرق الإبادة ووسائلها وهل هناك أطراف صهيونية شاركت فى ذلك أم لا؟ كل هذه تساؤلات جانبية، بالنسبة لنا من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، هكذا علمنا القرآن الكريم، والمشروع الصهيونى فى فلسطين كان قائما قبل الهولوكست، لنتذكر أن قرار التقييم كان جاهزا للإصدار نهاية الثلاثينيات، لكن الثورة الفلسطينية الكبرى فى 1936 عطلت إصداره، ولنتذكر أيضًا أن الدولة الصهيونية «إسرائيل» كانت جاهزة للإعلان سنة 1942، ولكن الظرف الدولى للحرب العالمية الثانية لم يكن يسمح بذلك، ولنتذكر ثالثا أن وعد بلفور صدر فى نوفمبر سنة 1917، مذابح هتلر لليهود حدثت بعد ذلك، ولا يجدينا إنكارها، لكن حدوثها لا يبرر اضطهاد الفلسطينيين وتعذيبهم، فضلا عن سرقة وطنهم وهويتهم. اضطهاد اليهود ومذابحهم لا تبرر تكرار ذلك بأى شكل من الأشكال ولا مع أى فئة من البشر.
كنا مبالغين فى الاحتفاء بجارودى، ثم بالغنا بعد ذلك فى تجاهله وإهماله، حتى فى وفاته، يبدو أننا لم نعرف بعد الاعتدال فى اهتماماتنا ومشاعرنا، نقبل بتهافت بالغ على من نحب، ونتصرف بقسوة بالغة حين يتراجع الحب.. الطريف أن كتب وأعمال جارودى الأخيرة عن الإسلام وحضارته لم تجد منا أى اهتمام، وهو رجل اعتنق الإسلام من باب الحضارة والثقافة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد المصرى
حضرتك كاتب محترم
عدد الردود 0
بواسطة:
وائل شفيق
تسقط الثورة الغبية التي تسقط ديكتاتورا و ترفع ديكتاتورا آخر ..