حكى لنا جدى حكاية العمدة الذى ظلم وتجبر وذل الناس فى قريتنا، وعندما مات ترك ثلاثة من الأبناء، اختلفوا يوم وفاته على من سيخلفه، فقال الأكبر أنا الأّولى، وقال الأوسط أنا المتعلم، وقال الأصغر أنا أطولكم عمراً وأبقاكم للمنصب فى العائلة، وظلوا على اختلافهم حتى ضاعت العمودية منهم وأخذتها عائلة أخرى.
لم يتعظ الأبناء ولكنهم تمادوا فى اختلافهم، وتحول ما بينهم إلى شجار وصراع على الأرض، وجلب كل منهم بلطجية ليسلبوا الأرض حتى بارت وصارت لا تنبت إلا "حمضا"، وقتل الكبير الصغيرين وقتل الأوسط الكبير، ودخل السجن، وانتهت أسطورة ظلم وكره وحقد واختلاف.
وهو ما يماثل ما نعيش فيه اليوم من صراع وخلاف وجدال، لا ينتهى حتى يظهر على السطح ما هو أشد منه وأفظع، حتى صرنا نخاف على أبنائنا وهم بين أذرعنا، ونخشى من جيراننا وهم فى الماضى حراس علينا، ويشك بعضنا فى نوايا الآخرين، يخون بعضنا بعضاً ولا يعتد أحد برأى أحد، رغم أننا فى مرحلة بناء أمة وإحياء شعب.
ولنرى النموذج الأمثل لبناء الحضارات، فقد نجحت دولة النبى الكريم، صلى الله عليه وسلم، فى المدينة المنورة، بعدما ذاق المؤمنون من الظلم والقهر والاضطهاد الكثير، ولكن رسول الله زرع الأمل فى قلوبهم ورباهم عليه، وعندما تحقق حلمهم فى الهجرة، صنعوا دولتهم التى اكتملت أركانها بسواعد مخلصة، ورجال مؤمنين، وقانون ربانى يحكم لا يفرق بين غنى وفقير وعظيم وحقير، وقائد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وعندما انتهت أفراح المؤمنين من الأنصار والمهاجرين بقدوم نبيهم ونجاته، توجه النبى الكريم إلى مكان بناء المسجد، ومنذ أن وطأت قدماه الشريفة المدينة ظل يعمل ويعمل حتى وضع الأسس والأركان والقواعد، وحصن الدولة بأن نزع من بين أهلها الغل والحقد والكره والحسد والجاهلية، وآخى بين المهاجرين والأنصار، ونزع الشحناء من قلوب الأنصار وأعاد اللحمة بين الأوس والخزرج، وعقد معاهدته التاريخية الأولى مع يهود المدينة حتى يأمن غدرهم، ويسير أمور دولته الفتية دون منغصات أو أشواك فى جنبها.
وهو بالضبط ما نحتاجه اليوم، ونحن بصدد بناء جديد لدولة جديدة، تقوم على العدل والأمن، تشق الأرض فتنبت جذورها أشجارا، وتخترق السماء فتملأ الدنيا عزاً ورخاءً، فيطعم الجائع ويشبع المحتاج ويهنأ الجميع، لذا فلقد حان وقت التلاحم، حان وقت مد الأيدى للمصافحة والتصالح، حان وقت يقف فيه الكتف إلى الكتف، ولنبدأ فى البناء وننسى كل ما فات.
وهنا نحتاج إلى أن نتمثل موقف ذى القرنين، الذى أرسله الله تعالى لينقذ المستضعفين من يأجوج ومأجوج، وكان بإمكانه أن ينهى أزمتهم ويقضى على مشكلتهم، ولكنه أشركهم فى عمله ودعاهم للتلاحم والتعاون والتآذر حتى نجحوا فى بناء السور الذى وقاهم شر ما يخافون.
لذا فإننا نحتاج إلى أن نعمل سوياً، لا يتفرج أحد على أحد، وإلا ستنقلب السفينة وتغرق فى اليم، ونسقط الشجرة مع أول هبة ريح آتية.
وأطالب شعب مصر وجماعة الإخوان، وعلى رأسها محمد مرسى، بنسيان ما فات، وبدء مرحلة العمل للبناء، وحمل "القفة" من ودنيها حتى لا تسقط من يد واحدة، وأقول للمصريين إن كان الإخوان قد تصدروا المشهد السياسى فإنهم فى حاجة إلى سواعد الشعب كله، وأقول للإخوان عليكم بالجماعة ولم الشمل حتى لو زاد الإيذاء وكثرت الاتهامات، فالرسالة أعظم والغاية أكبر والمرحلة تاريخية، إما أن تكون مصر بكم وإلا فالنهاية وشيكة، والعدو متربص، ولن يجدى سوى التلاحم.