عند دقات الساعة السابعة كان المهندس حسام يقف أمام المرآة مستعدا للخروج، فلم يتبق إلا ساعتان على غلق أبواب لجنة الانتخابات لجولة الإعادة، لا شك أن هذا هو الوقت المناسب للنزول فالشمس بدأت رحلتها إلى النصف الآخر من الكوكب كما أن معظم الناس ليس لديهم صبر حسام للانتظار حتى اللحظة الأخيرة. أمال حسام رأسه نحو المرآة كثيرا وأخذ يحرك أصابع يده اليمنى فى جانب رأسه بين خصلات شعره السوداء الكثيفة، هى فى الحقيقة لم تكن سوداء تماما ففى العام قبل الماضى أحصت فتاته الصغيرة تسعة وثلاثين شعرة فقدت لونها فى رأسه حينما كان يحملها فوق كتفيه لتلامس بأناملها أوراق الشجرة الكبيرة فى حديقة منزل العائلة، يومها تعجب كثيرا، فقد كان متأكدا أن سارة لا تعرف كم يبلغ من العمر وإلا كان حتما سيشك فى أنها تداعبه بأن تعد شعرات بيضاء بعدد سنين عمره، كان يتساءل الآن: هل أصبحوا إحدى وأربعين؟ ابتسم من طرافة الفكرة ثم اعتدل فى وقفته أمام المرآة ووضع يده فى جيبه استجابة لنداء هاتفه المحمول، رقم غير مسجل ولكنه يعرفه جيدا، إنه عمر صديق عمره، أو كان كذلك، أكثر من عشرين سنة منذ أن كانا فى كلية الهندسة ثم عملا معا فى نفس المكتب الاستشارى لسنين أخرى، ماذا يريد عمر الآن؟ تساءل حسام وأخذه التساؤل الى ذكريات مرت عليها بضع سنوات لم يكن يريد أن يتذكرها، إنها ذكريات تحول العلاقة الحميمة بينه وبين عمر إلى علاقة فاترة لا تتجاوز بعض العبارات الروتينية عند اللقاء أو فى المناسبات، كانت بداية التحول فى إحدى ليالى شهر يوليو الحارة حينما قررا أن يبيتا معا فى المكتب لإنجاز بعض الأعمال المتأخرة، يومها ترك عمر المكتب ليصلى الفجر فى المسجد المجاور بينما قرر حسام أن يصلى فى المكتب لانهماكه فى العمل وقت الأذان، خرج عمر يومها ولم يعد إلا قرب أعياد الربيع، لم يكن عمر وحده من عاش أوقاتا صعبة وإنما حسام أيضا بعد أن عرف مكان عمر، أول ما فعله أن مسح رقمه من على هاتفه وتخلص من أى صورة تجمعه بعمر منذ أيام الجامعة، كان يشعر بالذنب لأنه تخلى عن هذه الصداقة فى لحظة بسبب محنة يمر بها صديقه ولكنه فى الحقيقة لم يكن يملك خيارا آخر. وخاصة بعدما علم أنهم داهموا منازل بعض أصدقاء عمر فجرا وساقوهم كالعبيد من بين أحضان أبنائهم وأزواجهم.
عاش حسام أياما صعبة فقد ظل شهورا لم يذق فيها طعم النوم، كان يطيل النظر إلى زوجته النائمة بجواره ثم ينتقل ليطمئن على أبنائه فى الغرفة الأخرى وينتفض مهرولا إلى النافذة كلما سمع صوت محرك سيارة فى الشارع ويرتجف من الرعب إذا سمع خطوات على سلم العمارة، كان يتوقع قدومهم فى أى لحظة وكانت نظرات الرعب فى أعين زوجته وبكاء أطفاله تمزق قلبه كلما تخيلها. ماذا يريد منى عمر الآن؟ يريد أن يذكرنى بهذه الأيام البائسة؟ ألم يكف ما حدث أول أمس عندما استيقظ حسام فقابله أيمن ابنه ذو الأربعة عشر ربيعا وهو يزف إليه الخبر السعيد ويفرحه بأنه قد استيقظ بالأمس ونزل ليصلى الفجر فى المسجد، تذكر حسام كيف أصيب أيمن بالذهول حينما صاح به: أوعى تعمل كده تانى، عندها أدرك حسام خطأ تصرفه فحاول أن يلطف الأمر: أقصد أوعى تعمل كده تانى من غير ما تصحينى عشان أنزل معاك.
هل جاءت مكالمة عمر ومعها هذه الذكريات الكئيبة فى هذا الوقت تحديدا وقبل أن ينزل للإدلاء بصوته وكأنها تسأله هل تريد لهذه الذكريات أن تعود؟ كان حسام قد قرر أن يبطل صوته فلم يكن مقتنعا بأى من المرشحين ولكنه توقف أمام هذه الحادثة وهذه الذكريات، لعلها رسالة، أو لعلها لا شىء.
خرج حسام وألقى السلام على حارس العمارة فرد عليه التحية رافعا يده اليسرى نحو رأسه، كان شيئا معتادا من عم أحمد منذ ثلاث سنوات، فبعد أن وقعت حادثة السرقة فى الدور الخامس تم إلقاء القبض على عم أحمد وظل بقسم الشرطة لمدة ثلاث أسابيع، خرج بعدها وهو لا يحرك إلا يده اليسرى، سمع حسام من بعض الجيران أنه ظل طوال الأسابيع الثلاثة معلقا من يديه فى السقف لكى يحملوه على الاعتراف بأنه مرتكب الجريمة وهو ما أصاب عضلات يمناه بالضمور ثم لم يتم إطلاق سراحه إلا بعد أن تم القاء القبض على السارق الحقيقى.
لماذا تذكرت كل ذلك الآن؟ إنه يسلم عليك كل يوم بيده اليسرى، فلماذا الآن؟ سأل حسام نفسه وأجاب: لعلها رسالة أخرى.
داخل اللجنة تغير موقف حسام من إبطال صوته تماما خاصة بعد أن رأى ضابطا يسب جنديا بشرفه فقد ذكرته الحادثة بأكبر إهانة فى حياته عندما كان مجندا وسبه العقيد بأمه، مازال يتذكر كيف لم ينقطع عن البكاء فى تلك الليلة، إنه لم يشعر بالذل فى حياته أكثر من تلك الليلة، ولكن لماذا يتذكرها الآن؟ لا شك أنها الرسالة الثالثة، إذن لا مفر من انتخاب المرشح غير العسكرى، لابد وأن يقول لا لدولة القمع والذل، لابد لهذه الأيام ألا تعود.
تحمس حسام للفكرة وأخذ ورقة الانتخاب وهم بانتخاب المرشح الإسلامى ولكنه لم يلبث أن رأى صورته فى الورقة فتذكر نفس هذا الوجه وهو يقف أمام آلاف فى الاستاد يرفع يده متمايلا متراقصا مع أنغام المطرب الشعبى الذى جاء لاحياء الحفل (المؤتمر).
إذن هذا هو المرشح الإسلامي، لماذا يقولون أنه مرشح إسلامى؟ هل نطق يوما باسم الدين أو باسم الإسلام؟ هل وعد بتطبيق أى حكم شرعى لا يطبق الآن؟ هل جاء فى مشروعه كلمة الإسلام أكثر من أنه المصدر الرئيسى للتشريع؟ إذن لماذا هو إسلامى؟ لجمع أصوات محبى الديانة؟ أم أنه يخفى ما لا يعلن؟
ظل يتأمل الصورة وهو يفكر، لماذا هو مرشح الثورة؟ ألم يخرج للاحتفال بها من خمسة أشهر؟ ألم تنتهى الثورة وتحقق أهدافها؟ لا؟ إذن لماذا احتفلوا؟ ولماذا أصروا على إفساد الانتخابات حينما دفعوا بمرشحهم؟ لماذا لم يدعموا مرشحا ثوريا وانتهى الأمر؟ ولكن من يدعمون؟ لا أحد يستحق، ثلاثى أضواء المسرح هذا الذى لم يتذكر أن يتفق إلا بعد أن خسروا جميعهم كل شىء؟ ما هذا الهراء.
تدافعت كل هذه الأفكار فى رأس حسام ولم يفق إلا على صوت غليظ من خلفه: ياللا يا أستاذ ده همه كلهم اتنين أومال عملت إيه النوبة اللى فاتت؟
استدار حسام نحو صاحب الصوت وتأسف له فى هدوء ثم نحى القلم جانبا وطوى الورقة نصفين ثم وضعها فى الصندوق.
