لا يدعو موقف الشعب المصرى من الانتخابات الرئاسية بأى حال من الأحوال إلى الحزن والتشاؤم أو إلى لطم الخدود وتمزيق الجيوب كما يبدو للمشاهد، ولكن العكس هو الصائب فهو يدعو إلى التفاؤل والإعجاب.
لأننا لو عدنا إلى ما قبل ثورة يناير لوجدنا قطاعا كبيرا من الشعب لم تكن تهمه أمور الوطن ولا يلقى بالاً إلى ما يحدث أمامه من أطراف حاكمة وكان الهم كله ينحصر فى مباراة كرة يفوز فيها ناديه أو ألبوم غنائى يصدر من مطرب أو مطربة أو يلقى نظرة فى الصحيفة إلى باب: أين تذهب هذا المساء..
وربما كان الكامن فى عقل الشعب هو أن الحكومة برئيسها وأعضائها وكبرائها هم أصحاب الرأى الأول والأخير وهم أولو الأمر الذين يشقون فى سبيل إطعام الملايين وتوفير الرغيف.. فكانوا يصدقون الحاكم ويمصمصون الشفاه حين يقف ويتساءل: "أجيب لكو منين"؟
بمعنى آخر الحاكم وأعوانه كانوا فى الأنظار هم الكبار الواجب علينا احترامهم وتبجيلهم أيا كانوا، نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم، ويجزع الشعب إذا ما حدث لحاكمه أو لفرد من أهله مكروهاً فقد دمعت العيون وارتفعت الأيدى بالابتهال والدعاء حين مات ابن علاء مبارك – المسجون حاليا- والمشارك فى سلب حقوق الشعب، وربما قال قائل إن هذا الحزن الذى أصاب الناس لموت الطفل هو شعور إنسانى محض ولكن الرد عليه يكون بأن الحزن لم يكن حارقا لمصيبة موت طفل.. فكم من طفل يموت كل يوم.. بقدر ما كانت المصيبة خاصة بابن الحاكم الإله فى نظر الناس، كما هى العادة الفرعونية القديمة أن الملك كان دائما " سا رع" أى ابن الإله رع وأحيانا "رع" نفسه أى الإله!
ففى مصر الفرعونية نشأت نظرية تقديس الملوك وكيف أن الملك ابن الله أو يمثله على الأرض أو من نسل الآلهة، وهى النظرية التى انتقلت فيما بعد إلى الفكر اليونانى والرومانى ثم أخذتها الأديان المختلفة لتشكيلها تشكلاً جديداً يتفق مع مبادئها العامة فى التوحيد، ويرجع المؤرخون أن هذا التأثير قد انتقل من الثقافة الغربية عن طريق الإسكندر الذى زار معبد آمون بعد استيلائه على مصر واستقبله الكهنة فيه وقاموا له بطقوس دينية، إذ انتقلت الفكرة بعد ذلك إلى سكان رودس الذين عندما أرادوا تأليه بطليموس الأول فاستشاروا كهنة آمون وأخيراً انتشرت فى الدولة الرومانية وأدت إلى وجود نظرية حق الملوك المقدس.
ومن هذه النظرية نشأت نظرية أخرى انتشرت كسابقتها وهى أن الملك أو الحاكم هو المالك للأرض وأن الأفراد ليس لهم إلا حق استغلالها نظير فوائد معينة تعود عليهم.
وأما من الناحية التشريعية فكان المنطوق الإلهى (تعاليم الملك) هو التشريع الأمثل، وكان هذا المنطوق يصدر فى صور مراسيم واجبة الطاعة والنفاذ..
نعم كان هذا هو الموروث السىء، أن الفرعون هو أكثر الأشخاص نفوذا فى مصر، حين اعتقد الناس أنه نصف بشر ونصف إله، أى تجسيد للمعبود، هو الملك والإله، الحائز على أسرار السماء والأرض.
هو الصائر إلى الجنة بصفته العادل دائما المحق دائما صاحب القلب الطاهر النقى من الخطيئة.
والمنطوق الإلهى هو تعاليم الملك وتشريعه مرسوم واجب الطاعة والنفاذ.
انهار هذا الفكر المصرى القديم بقيام الثورة، وانهار أكثر حين وجد الشعب نفسه وجهاً لوجه أمام صندوق كيانه ووجوده، يضع فيه رأيه وصوته، الذى يرفع رئيسا ويسقط آخر.
صندوق الأحلام الممكنة.. لا صندوق الأوهام ككل مرة.
لم يعد الحاكم فى مصر ابن الإله ولا نصف إله ولا شيئا من ذلك كله.
فهم الشعب "الفولة"، وعرف أن الحاكم ليس إلا واحدا من "بنى آدم" يجب أن يقف فى طابور الاقتراع مثل غيره وأن قرار قدومه إلى كرسى العرش وقرار رحيله يكمن فى ورقة يملكها الشعب يلقيها فى صندوق الاقتراع.
الشعب هو الذى يقول ويطلب ويقترح و" يضع رجل على رجل" والحاكم هو الذى يسمع ويلبى ويطيع.
الشعب هو الذى يملى شروطه والحاكم هو الذى يسرع بضمان تحقيق الشروط.
الشعب هو الذى ينظر للحاكم ويرثى لحاله وهو يتملقه من أجل صوته الانتخابى.
الشعب أصبح الآن" رع" والحاكم عليه أن يسارع بتقديم القرابين له.
مظاهرات من 25 يناير