منذ الثالث من مارس الماضى ومصر فى حيرة من أمر تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور الجديد، ففى ذلك اليوم عقد الاجتماع المشترك بين الأعضاء المنتخبين فى مجلسى الشعب والشورى بدعوة من المشير محمد حسين طنطاوى، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لانتخاب الأعضاء المائة فى الجمعية التأسيسية للدستور وذلك تنفيذا لنص المادة 60 من الإعلان الدستورى فى 30 مارس 2011.
وفى ذلك الاجتماع وضحت رغبة حزب الحرية والعدالة فى الاستئثار بأغلبية أعضاء الجمعية حين أصر قادة الحزب على اختيار %40 من بين أعضاء البرلمان و%60 من غير أعضاء مجلسى الشعب والشورى، بينما أصر حزب النور على العكس لتكون نسبة الأعضاء فى الجمعية من داخل البرلمان %60 ونسبة الشخصيات من خارج البرلمان %40، ثم اتفق الحزبان صاحبا الأكثرية فى مجلس الشعب على أن تكون النسبة %50 من أعضاء البرلمان و%50 من خارجه.. وقد أثارت هذه النزعة إلى الاستئثار والاستحواذ من جانب حزبى الأكثرية البرلمانية غضب الأحزاب الأخرى الممثلة فى البرلمان، وانسحب ما يقرب من ثلاثين عضوا من الذين تم ترشيحهم للجمعية، وفى مقدمتهم ممثل الأزهر الشريف وممثلو الكنيسة والمحكمة الدستورية العليا، ثم صدر حكم محكمة القضاء الإدارى بقبول الطعن فى قرار تشكيل الجمعية الذى تقدم به ما يقرب من مائة من أساتذة القانون والدستور والناشطين السياسيين، وقضى الحكم بوقف تنفيذ تشكيل الجمعية التأسيسية وإعادة تشكيلها كلها من خارج البرلمان، ومنذ العاشر من إبريل 2012 تاريخ صدور الحكم، وموضوع إعادة التشكيل ما يزال يراوح مكانه انتظارا لنتيجة الانتخابات الرئاسية حسب الرأى الشائع بين الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية التى تطالب بأن يتم التشكيل وفقا للمعايير التى تم الاتفاق عليها بين رؤساء الأحزاب والمشير أكثر من مرة، والتى لا يزال حزب الحرية والعدالة يرفضها برغم أنه من الموقعين على ذلك الاتفاق! وكان آخر التطورات أن أعد حزب الحرية والعدالة مشروع قانون بمعايير انتخاب أعضاء الجمعية الـتأسيسية واصل فيه تحدى حكم القضاء الإدارى بأن ضم عددا من أعضاء مجلسى والشورى، على خلاف ما قضى به الحكم، وكان من المقرر أن يناقش هذا المشروع فى مجلس الشعب بجلسة الاثنين الثامن والعشرين من مايو، ولكن نتيجة لاعتراض نواب المعارضة اضطر رئيس المجلس إلى إعلان سحبه تمهيدا لتعديله.
ويعود أصل المأزق الحالى فى إنجاز مشروع لدستور البلاد إلى المأساة التى تسببت فيها لجنة التعديلات الدستورية التى رأسها المستشار طارق البشرى والاستفتاء الذى جرى فى 19 مارس 2011 والذى كانت نتيجة الموافقة عليه أن تحددت خارطة الطريق الخطأ للمرحلة الانتقالية التى قضت بالبدء بإجراء الانتخابات التشريعية وتأجيل وضع الدستور إلى ما بعدها، وهذا الخطأ التاريخى فى إدارة التحول الديمقراطى بعد الثورة هو السبب فى كل الاضطرابات التى عاشها الوطن - ولا يزال - منذ تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة مسؤولية «إدارة شؤون البلاد» بتكليف من الرئيس المتنحى.
وفى محاولة لسد هذا الفراغ الدستورى تمت صياغة وثيقة كانت تهدف إلى التوافق على مبادئ عامة وأساسية عن الحريات والحقوق المفروض تضمينها فى دستور البلاد، والتى لا يختلف الناس عليها والموجودة فى كل الدساتير الديمقراطية والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وكانت أحزاب وقوى سياسية مختلفة فى مقدمتها حزبا الوفد والحرية والعدالة قد وافقت على الوثيقة، وذلك قبل أن تعلنها حكومة الدكتور عصام شرف كجزء من خطة التنمية السياسية والتحول الديمقراطى بعد أن توليت منصب نائب رئيس الوزراء فى تلك الحكومة.
وقد شنت جماعات الإسلام السياسى الهجوم على الوثيقة بزعم أنها تمثل التفافا على الاستفتاء، وكانت الوثيقة فى الأساس محاولة لتصحيح خطأ تأخير وضع الدستور الذى أوجد حالة تشبه محاولة إقامة بناء من دون وضع الأساس الذى يقوم عليه، ولنتأمل الموقف التعس الذى تسبب فيه هذا الاختيار الخاطئ لأولويات التحول الديمقراطى، فدستور 1971 قد تم تعطيله بموجب الإعلان الدستورى الأول الصادر فى 13 فبراير 2011، ولم تفلح التعديلات الدستورية التى تمت على تسعة من مواد دستور 1971 فى تهيئة مناخ دستورى مناسب لمساعدة المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى إدارة شؤون البلاد، فكان أن اضطر إلى إصدار إعلان دستورى فى 30 مارس تكون من 63 مادة نقل أغلبها عن مواد دستور1971، كان أسوأها صياغة المادة رقم 60 التى حددت طريقة انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور التى ما زالت محل خلاف بين القوى السياسية.
واستكمالا للموقف الدستورى التعس نجد أن مجلس الشعب منقوص الصلاحية، حيث لا يمكنه أن يسحب الثقة من الحكومة مجتمعة أو من وزير أو وزراء معينين، وذلك حسب ما قضت به المادة 33 من الإعلان الدستورى، وفى ذات الوقت لا يملك المجلس الأعلى للقوات المسلحة - ومن ثم رئيس الجمهورية حتى وضع دستور جديد - أن يحل مجلس الشعب، وتبلغ التعاسة الدستورية أقصاها حينما تم إجراء الانتخابات الرئاسية فى غيبة دستور يحدد نظام الحكم فى البلاد ويحصر اختصاصات وصلاحيات رئيس الجمهورية، خاصة أن الإعلان الدستورى يمكن أن يتيح الفرصة لتغوّل الرئيس فى ممارسة صلاحيات واسعة فى غياب ضوابط رقابية واضحة للسلطة التشريعية على ما يقوم به من أفعال، خاصة حين يذكر البند العاشر من المادة 56 أن سلطات رئيس الجمهورية تشمل «السلطات والاختصاصات الأخرى المقررة لرئيس الجمهورية بمقتضى القوانين واللوائح».
وفى المشهد السياسى الحالى يبدو للجميع مدى تعنت حزب الحرية والعدالة صاحب الأكثرية فى البرلمان ورغبته الواضحة فى السيطرة على الجمعية التأسيسية للدستور برغم حكم القضاء الإدارى وحتمية الطعن من جديد على أى تشكيل للجمعية يخالف الحكم الصادر بعدم مشاركة أعضاء البرلمان فى عضويتها، وفى المقابل فإن الأحزاب والقوى السياسية الأخرى ترفض تسليم عملية وضع الدستور لقمة سائغة لحزب الأكثرية، والأمر يقتضى فى رأيى ضرورة العودة إلى وثيقة المبادئ الأساسية للدستور التى تحدد الحقوق والحريات الأساسية للمواطن المصرى وتحصنها، فلا يجوز تعديلها أو إهدارها أو المساس بمضمونها أو جوهرها بأى طريقة كانت، وتضمن استقرار دولة القانون والمدنية والنظام الديمقراطى فى مصر بعد الثورة، على أن تشمل الوثيقة معايير اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور التى توافقت عليها الأحزاب والقوى السياسية فى اجتماعها مع المشير طنطاوى، ويكون قبول الوثيقة ضمن مجموعة الضمانات التى يوقع عليها ويلتزم بها المرشحان فى جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد زغلول
حفظك الله يا دكتور على