الوقت عصيب، والكل مهموم بالسياسة والمشاكل الاجتماعية، والضغوط المصطنعة لوأد الثورة فى مهدها. والحق فى تلك الظروف، أمر من الدواء. لكن إن أردنا إصلاحاً وتقدماً بعد الثورة، فلا مجال للتهاون فى قضية تزييف الوعى بحقيقة الهوية المصرية، كى لا نستمر شعباً ذا وعى مريض، فنصنع من رئيسنا القادم مستبداً؛ كى نسقط عليه استبدادنا بالرأى.
فالحق أن "الفرعون" لا ينتجه إلا مجتمع "فرعونى".
إن مثل وعينا الجمعى بجذور هويتنا المصرية، كمثل شخص عملاق بهى الطلعة، يرى نفسه فى كل مرآة ينظر فيها، قزماُ شائهاً، يمارس حياته مصطدماً بكل من يقابله، وكل ماحوله؛ لعدم إدراكه لحقيقة حجمه وبهاء صورته. أو كآخر يقفز من شرفته فى الطابق العشرين، لأن صوره الذهنية الخاطئة عن نفسه وقدراته الإنسانية، هيأت له، أنه يستطيع القفز والطيران إلى الأرض القريبة، فيسقط صريعاُ.
والعمل على إصلاح ما تهدم من معمار هوية المصريين، ووعيهم بحقيقة حجمهم بين الأمم، دون إفراط أو تفريط، يتطلب إعادة النظر فى بعض المصطلحات والكلمات، التى نتعامل مع صحتها كمسلمات، بينما لا ندرك أننا فى كل مرة نلفظها، أو نقرأها، أونكتبها، نعطى لها قوة وطاقة الاستمرار فى لعب دورها المدمر للإدراك القويم..
أول تلك المصطلحات، وأخطرها على الوعى، هو مصطلح الفرعونية ومشتقاته اللغوية، لعظم وشيوع انتشاره واستعماله محلياُ وعالمياُ.
ففى تقديرى لم تنجح لفظة ومشتقاتها فى تشويه الصورة الذهنية فى الوعى الجمعى المحلى والعالمى، عن المصريين وحضارتهم وجذور هويتهم، بقدر نجاح لفظة "فرعون" ومشتقاتها.
فمصطلح "الفرعونية" يحمل فى طياته، أخطر أنواع السرطانات الحضارية، التى تتسبب فى تعميق الشعور الفصامى بالهوية المصرية.
وأعتبره الأخبث من نوعه، إذ إنه يصعب على الوعى لقدمه اكتشاف آثاره المدمرة، كما يرفض اللاوعى بشدة إدراك أبعاد خطورته حين يواجهها، وأيضاً لأنه انتقل وراثيا فى الفكر عبر مئات الأجيال، دون رقيب أو علاج، فبات واقعاُ مسلم به.
وأتساءل:
إذا كان المصريون على مدار مايزيد على 5000 عاماُ، كما ندعى شعب "فراعنة"، وسميت الحضارة المصرية القديمة بالحضارة "الفرعونية"، نسبة إلى الملك الذى يحمل لقب "الفرعون".
فلماذا لم تسم أيضا الحضارة الفارسية، "بالأكاسيرية" نسبة إلى لقب كسرى، الذى حمله ملوكهم؟ ولماذا لا ندعو كل من ينتمى لحضارة فارس، وكل نتاج لها "كِسرى"؟
ولماذا لم يسم الأحباش " بالنجاششة"، نسبة إلى لقب ملوكهم، الذين حملوا لقب النجاشى؟
هذا يعنى أننا نستسهل تعميم "الفرعونية" على كل ما يتعلق بحضارة مصر القديمة، وهو فكر خاطئ وغير علمى، نخدم به دون أن ندرى أهداف أصحاب المصالح فى تشويه جذورنا الحضارية.
ولماذا عندما يحقق مصرى تميزا عالميا فى العلم أو الرياضة أو الفن يلقب "بالفرعون المصرى"، مع أن الرئيس السابق حسنى مبارك وكل ظالم مستبد فى تاريخنا يلقب أيضاً "بالفرعون"؟.
كيف نعمم اللقب على الأبطال والرموز، كما نعممه على الظالمين المستبدين؟
ثم كيف نقول إن "الفراعنة" هم أصحاب أقدم حضارة إنسانية قائمة على العلم والإيمان والعمل والنظام فى التاريخ، بينما نصدق ما يشاع عن أن "الفراعنة" كانوا يؤلهوا الحاكم ويعملون بالسخرة، ويصلون لكل تقدم بسحرهم، وسطوة كهنتهم الغاشمة؟ وكيف يتناسق التقدم الحضارى مع الاستعباد والاستبداد؟.
كل تلك الأسئلة تمثل أعراض الفصام الفكرى، الذى يسببه هذا المصطلح، ذلك لأنه يحمل فى تداعياته على الوعى دائما شعورين متضادين فى نفس الوقت، كالفخر والبغض، والتقدير والاستهانة، والعظمة والضعة، والاستعباد والعبودية.
ولنستمر فى التساؤل:
كيف استقر فى الوعى الإسلامى، أن الحضارة "الفرعونية" حضارة وثنية، متعددة الآلهة، ووصل الأمر أن يصفها عن جهل أحد قادة الجماعات الإسلامية قبل شهور بالعفنة، بينما يتحدث القرآن الكريم عن إيمان زوجة فرعون، ورجل من قومه يكتم إيمانه، بل ويظهر السحرة المصريون إيمانهم العميق، برب موسى عليه السلام؟.
من أين أتى المصريون بهذا الإيمان المحمود، على الرغم من أن أنبياء بنى إسرائيل لم يبعثوا إلا فى قومهم؟.
إضافة إلى الصمت والتجاهل المريب فى مجالات الثقافة المصرية، إزاء الحقائق التى تثبت أن قدماء المصريين، عبدوا الإله الواحد خالق الكون، وإن اختلفت أسماؤه، واختلطت صفاته فى الوعى عبر آلاف السنين.
هذا أيضا من أبرز علامات وأعراض الفصام النكد لهوية المصريين، التى تسبب فيها تعميم الصورة الذهنية، لشخوص قصة فرعون موسى، على عموم الشعب المصرى وحضارته، وعلى مئات الملوك الذين حكموا مصر، لآلاف السنين.
وقد حان الوقت أن نعترف كمصريين، أننا ساهمنا بالاستسهال والتسطيح فى قضية المصطلحات الحضارية، فى خلق واحدة من أكذب قصص " الإيهام الجمعى"، وأعمقها أثرا، فيما يختص بهوية مصر الفريدة.
ليس فقط فى التراث المصرى، ولكن فى عموم تراث الحضارة الإنسانية، فالاعتراف بأمراض الهوية، هو بداية تحمل المسئولية الشخصية، تجاه وعى الأجيال القادمة.
فما هى إذاً أولى خطوات العلاج؟.
قل دائماً: مصرى قديم، ولا تقل أبداً: فرعونى، واشرح السبب لكل من تعرفهم.
إن كان تأثير تلك الخطوة غير مقنع بالنسبة لك، فواجه نفسك بحقيقة أنك لا تؤمن فعلياً بقوة الكلمة وتأثيرها عبر العصور والأجيال.
أما عن نشأة وتطور تلك الآفة الحضارية، فللحديث بقية..
محمد جاد الله يكتب: الثورة على "الفرعونية".. كى لا نحيا كالمومياوات
الجمعة، 04 مايو 2012 12:20 م
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
المصرى
هوية مصر
عدد الردود 0
بواسطة:
أزهار أحمد عبد الفتاح محمود
آفة حارتنا النسيان
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الحق
فرعون ليس لقب ملك مصر القديمة!
عدد الردود 0
بواسطة:
عفاف الراوي
ازاي كده؟
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الفتاح البارودي
الغيبوبة الحضارية
مقال رائع النسيج يعبر عن رؤية ثاقبة للكاتب.
عدد الردود 0
بواسطة:
نوبي
لماذا اختفت اللغة الفرعونية وبقيت اللغة النوبية حتى اليوم ؟؟