(التاريخ يعيد نفسه) تلك مقولة الغربيين، ومثلها عند العرب (ما أشبه الليلة بالبارحة!). وكلتا المقولتين تلفتان إلى تشابه الحوادث لتشابه مقدماتها، ولكن البعض منا - آملاً أو راجيًا أو متمنيًا - يقول: التاريخ لن يعيد نفسه، واليوم يختلف عن الأمس، وما مضى قد مضى ولن يعود أبدًا. وهذا ما نرجوه.
قد يجلس البعض منا يطالع كتابًا من كتب التاريخ، متكئًا على كرسيه، أو ممددًا على سريره، واضعًا إحدى رجليه على الأخرى، وأمامه كوب شاى مضبوط، أو فنجان قهوة على الريحة، يصوب هذا، ويخطئ ذاك، يريد أن يحاكم شخصيات التاريخ، كيف لم ينتبهوا إلى ما هو واضح البيان، ماثل للعيان، لا يختلف فيه اثنان، ولا تنتطح فيه معزتان، ولا كبشان أقرنان.
حين تطالع الخلاف السياسى بين الصحابة رضوان الله عليهم، أو تقرأ عن اضمحلال دولة بنى أمية، أو استبداد السلاطين بخلفاء دولة بنى العباس، أو حروب ملوك الطوائف، وكيف استعان كل منهم بالأجنبى على أخيه، حتى أخرجوا جميعًا منها، المستعين بالأجنبى، والمستعان عليه. تقرأ هذا ويكاد عقلك يطير: كيف لم يتجنبوا مواطن الزلل، وعوامل الفرقة، وأسباب الهزيمة؟ أين ذهبت عقولهم؟ وكيف غابت بصيرتهم؟ كيف غاب عن علماء الأمة ومفكريها وقادتها وساساتها وأهل الرأى فيها، ما لم يغب عنى وأنا إنسان فرد بسيط؟
الآن، بعد أن انقشع الغبار، وهدأت المعركة، وظهرت الأمور على حقيقتها، وما كان ينتظر قد وقع، وما كان يخشى منه قد حدث، سهل عليك أن تقول هذا، لكن الحكماء وأصحاب البصيرة هم مَن يقولون هذا قبل أن يكون، لا بعد أن كان.
إن التاريخ يا سادة لا يلتفت إلى تفاصيل الحياة اليومية، ولا موقف زيد وعمرو من الناس، ولا إلى الأسباب الجزئية التى أدت إلى النتيجة الكبيرة، ولكنه يهتم بالأسباب الكبرى، والنتائج النهائية. إنه ليس سيرة ذاتية يستطيع أن يتلاعب فيها صاحبها بالكلمات، ويدافع فيها عن نفسه، ويكسب تعاطف القارئ، أو على الأقل عذره لما اتخذ من مواقف خاطئة.
إنه التاريخ، يكتب النتيجة النهائية للمعركة، من المنتصر ومن المنهزم، قامت الدولة أو اضمحلت أو وأدها أهلها فى مهدها. والتاريخ الآن ينتظر ليكتب: هل نجحت الثورة المصرية أم فشلت، كما فشلت أخوات لها من قبل؟
إنه لن ينظر إلى موقف الإخوان وعبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحى والعوا، وغيرهم من الأحزاب، والمرشحين، والنخبة والمثقفين، إنه يختصر الأحداث والأيام والشخصيات اختصارًا، وسنة كاملة فى حياة أمة، قد تحظى بسطر من التاريخ، أو يكون السطر كثيرًا عليها.
ولا نريد أن يقرأ أولادنا فى كتب التاريخ: (قامت حركة احتجاج مخربة فى 25 يناير 2011، ولكن استطاع النظام التغلب عليها، وعادت الأمور إلى سابق عهدها بتولى الفريق أحمد شفيق للرئاسة، خلفًا للرئيس محمد حسنى مبارك). لاسيما أن التاريخ يكتبه المنتصرون كما نعلم.
فيا عقلاء مصر يا قادة الرأى فيها، يا أيها النخبة المثقفة، ماذا تريدون أن يُكتب عن ثورتكم فى التاريخ؟
أيستقيم - حين تقوم المعركة بين وطنك وأعدائه - أن تقول: لن أشارك فى المعركة؛ لأن لى رأيًا ألاَّ ندخل فى المعركة الآن، أو أن ساحة المعركة هذه غير مناسبة وغير عادلة، أو أن الجيش الذى يدافع عن الوطن ليس جيشًا مثاليًّا، أو أن تقف فتشاهد المعركة من بعيد وتقول لا ناقة لى ولا جمل فى هذه المعركة، وقد نصحتهم فلم ينتصحوا؟
إنها ليست معركة بين كفر وإيمان، ولا بين وطنيين وخونة، ولا بين مصريين وإسرائيليين، وأنا لا أستدعى معاذ الله أجواء غزوة الصناديق بين من قالوا: نعم. ومَن قالوا: لا. ولكنها معركة انتخابية فاصلة، بين من ينتسب إلى الثورة، وبين من يريد أن يلتف عليها، أو يجهضها ويجعلها فى خبر كان؟
والحكماء حسموا الأمر فقالوا: أنا وأخى على ابن عمى، وأنا وابن عمى على الغريب. وقالوا: صديق صديقى صديقى، وعدو عدوى صديقى، وعدو صديقى عدوى، وصديق عدوى عدوى. وعاشت مصر حرة مستقلة.
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ابو عمرو
العبر من التاريخ