
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
خرجت من منزلى بأحد الأحياء الشعبية المزدحمة بالقاهرة، قاصدا محطة قطارات مصر، حاولت أن أستوقف سيارة أجرة كى تقلنى فى سرعة إلى مقصدى لأننى بالفعل كنت قد أوشكت على التخلف عن موعد قطار الإسكندرية الذى يفصلنى عن موعد انطلاقه أقل من ثلاثة أرباع الساعة حيث كان مقررا له الانطلاق فى الثانية عشرة عند دقات منتصف الليل، وكما تعلمون أن من يدخل فى سباق مع الوقت نادرا ما ينتصر، وبينما أنتظر فى يأس، فإذا بسيارة أجرة موديل قديم كانت فارهة فى يوم من الأيام تتوقف أمامى مباشرة، وينظر إلى سائقها قائلا لى فى صوت مهذب تفضل، نظرت إليه ودون تفكير فى من أين جاءت تلك السيارة التى تبدو وكأنها شبح ظهر من العدم، ألقيت بحقيبتى فى المقعد الخلفى ثم ألقيت بجسدى فى المقعد الذى إلى جوار السائق الذى انطلق فى شوارع القاهرة المزدحمة قبل أن أخبره إلى أين هى وجهتنا.
كان السائق رجلا يشبه إلى حد كبير أولئك القادة الذين نراهم فى المسلسلات التاريخية ممن اشتعلت رؤوسهم شيبا فزادهم ذلك الشيب وقارا وغموضا، وكان يرتدى ملابسا رثه بالرغم من أنها تبدو فاخرة الصنع، حتى السيارة تبدو من الداخل كأنها خرجت للتو من مصنع السيارات، وبينما كان عقلى مستغرقا فى غموض هذا المشهد لحل طلاسمه، بادرنى الرجل قائلا، أنا لست من تظن، فلم أكن يوما قائدا لأحد، وليس هذا عملى الذى أعيش منه، لكننى هنا فى مهمة محددة، فقبل أن تلحق قطار الإسكندرية، عليك أن تذهب إلى موعد آخر!!
لا أخفى عليكم، فقد تملكنى الخوف وبدأت أرتجف من داخلى وأحسست أننى وقعت فريسة لشبح ما، بل وأننى أستقل مركبة عتيقة إلى جواره بينما هو يقرأ أفكارى ويحدثنى عنها، وبعد أن جحظت عيناى بشكل تلقائى وقبل أن ينفجر قلبى بسبب تلك السرعة الجنونية لنبضات قلبى المتلاحقة، نظر نحوى وابتسم ابتسامة هادئة أحسست معها بالريبة أكثر فأكثر، وذادت الحيرة بداخلى، فأنا لا أرى فى وجهه أى من هذه الملامح التى صورتها لنا الأفلام السينمائية من قبل، أو أى من الأوصاف التى أتحفنا بها مدرسو المرحلة الابتدائية فى شطحاتهم، تمالكت نفسى وسألته إلى أين نحن ذاهبون ومن أنت؟ أجابنى وهو يشير بإصبعه نحو ساعتى، ما تاريخ اليوم على ساعتك؟ نظرت فى تباطؤ حذر إلى ساعة يدى وإذا بعداد التاريخ يعدو حول نفسه فى جنون ثم استقر على يوم الثانى من شهر يونيو، ووجدت عقرب الساعات قد مسه الجنون هو الآخر فاستقر على الساعة التاسعة، تطلعت إلى الرجل مرة أخرى فإذا بالليل من حولنا قد تلاشى فى أضواء النهار فصرت كالذى فقد عقله أنظر حولى دون هدف،،
بدأت السيارة تقلل من سرعتها، ثم توقفت أمام جمع مزدحم، وإذا بالرجل يترجل من السيارة ليفتح لى بابها كى أترجل منها انأ أيضا، ثم أعطانى شريطا معلق فيه بطاقة هوية تحمل صورتى واسمى، وقال لى تفضل وأشار بيده فى اتجاه المدخل الذى تلاشى تقريبا من كثرة الازدحام، وودعنى بابتسامة مريحة، حملت معى دهشتى وحيرتى إلى حيث أشار الرجل، عند الباب استوقفنى بعض رجال الشرطة من القائمين على حراسة المدخل، وتفحصوا بطاقة الهوية المعلقة فوق صدرى، ثم أذنوا لى بالدخول، أكملت طريقى حتى باب آخر أكثر حراسة من سابقه، ففعل الحراس كما فعل سابقوهم، ثم دخلت إلى القاعة، فإذا بى أرى وجها لوجه أمامى الرئيس المخلوع وزمرته من حوله فى قفص الاتهام، وكان القاضى يتهيأ لنطق الحكم بعد أن أسكت همهمت الحضور بطريقة مسرحية، وفجأة تعلقت الأنظار بطفل صغير مدرج فى دماءه يلج من باب قاعة المحكمة إلى داخلها وهو متجهم عابس الوجه، توجه مباشرة نحو منصة القضاة، وكانت قطرات الدماء تتساقط من وجنتيه وجبهته ومن أجزاء أخرى بجسده، فارتسم خلفه على الأرض مسارا متصل من خيط أرجوانى،، خطى الطفل فى ثبات تراقبه أعين كثيرة تتملكها الدهشة إلى أن وصل إلى منصة القضاة،،
تناول الطفل روبا أسودا يخص أحد محامى الرئيس المخلوع كان ملقا فوق مقعد فى الصف الأول ووضعه فوق كتفيه، ثم نظر إلى القاضى طالبا الإذن فى أن يتكلم أمام القضاة والمحامين وأهالى الشهداء وغيرهم ممن حضر، فأجابه القاضى وكأنه يعرفه واعتاد على وجوده فى معظم الجلسات السابقة، نحن لم نوجه إليك أية أسئلة كى تجيب عنها، ولم نطلب شهادتك حتى تتحدث، فلا تزعج نفسك واجلس كما تفعل كل مرة، إلا أن الطفل الذى تحولت الأرض تحت قدميه إلى بركة من الدماء أصر على الحديث، وبدت فى عينيه نظرة حزينة وغاضبة فى نفس الوقت وطل منهما الشرر، فما كان من القاضى ومستشاريه الذين شعروا بجديته هذه المرة إلا أن انصاعوا لرغبته فأذنوا له بالحديث،،
بدأ الطفل فى مرافعته وكأنه محام متمرس قائلا "سيدى الرئيس، السادة المستشارين، لقد أتيت إليكم اليوم تاركا خلفى أنهارا من الدماء التى لم تجف بعد، سالت فى سبيل هذا الوطن، ناضل أصحابها من أجل حرية هذا الشعب الخاضع، واحتملوا أبشع أنواع التعذيب فى سجون ومعتقلات الاستبداد والظلم، وحين خرجوا إلى ميادين الحرية، مطالبين بعيشة كريمة لهم ولكم، كان جزاؤهم رصاصات هذا القاتل ومن معه، فخيم الحزن على منازلهم، وسكن الحداد قلوب آبائهم وأمهاتهم، وما دفعنى أن آتى إليكم اليوم سوى ما رأيته من رغبتكم فى إطلاق سراح من قتَّلونا دون عقاب، بل ورغبتكم فى منحهم البراءة من ذنب، دماؤنا التى مازالت على أيديهم وتغمضون أعينكم عنها، دماؤنا التى سالت من أجل كلمة الحق، ومن أجل العدالة، فسفكت بوحشية،،، فماذا أنتم فاعلون؟؟ دماؤنا لم تجف بعد، والرصاص مازال يسكن صدورنا، وهذه أعين آبائنا وأمهاتنا، ما زالت تقطر دمعا ودما حزنا علينا، فماذا أنتم فاعلون؟؟"
صمت الجميع للحظات متأثرين بأقوال الطفل الذى أجهل من هو، بل بدأت بعض الدموع تتسرب من أعين بعض الحضور، إلى أن جاء صوت القاضى يشق الصمت "حكمت المحكمة ببراءة المتهم من التهم المنسوبة إليه، وأمرت المحكمة بإيداع الطفل إلى سجن الأحداث، لأنه وجد مدانا بتهمتى المطالبة بالعدالة، وتدنيس قاعة المحكمة بدمائه" رفعت الجلسة.
خرجت من القاعة فوجدت أنهارا أخرى من الدموع تفيض من أعين أهالى الشهداء وذويهم، وارتفع صوت النحيب ليملأ كافة الأرجاء، نظرت خلفى فكان الطفل بين يدى الحراس، يقتادونه وفى يديه القيد إلى سيارة كانت تنتظر وسط تهليل أنصار السفاح، ثم انصرفت به،،
بالقرب من نفس المكان الذى تركت فيه السيارة كان سائقها المهذب ينتظر واقفا إلى جوار سيارته، لكنه هذه المرة كان يقطر من عينيه الدمع، وتلاشت ابتسامته الهادئة استبدلت بحزن عميق لا قرار له، فتح لى باب السيارة فجلست داخلها بقلب ممزق،، تناول بطاقة الهوية مرة أخرى ثم انطلقنا، وأمام محطة القطارات، توقفت السيارة، وقال لى اذهب الآن حتى تلحق بقطارك، اختلطت الأمور بذهنى، نظرت إلى ساعتى مرة أخرى فوجدتها تشير إلى السادس عشر من مايو وبالتحديد قبيل منتصف الليل بنصف ساعة، وقبل محاكمة المخلوع بعدة أيام كاملة،،
ترجلت من السيارة التى انطلقت حتى تلاشت بين الزحام، وإذا بى أمام محطة القطارات لا أعرف وجهتى، أشبه الغريق الذى ينظر للدنيا من باطن العالم الآخر، أسأل نفسى هل كان ذلك حلما أم خيال؟؟ وإذا بالناس من حولى يجيئون ويذهبون وأنا أصطدم بهم دون أن يشعروا بى أو ينتبهوا لوجودى، شعرت بالألم يعاودنى بنفس الموضع المعتاد، ووجدت دائرة الدماء على صدرى تأخذ فى الاتساع، فأدركت حقيقة الأمر، وتذكرت أننى لست سوى أحد هذه "الأشباح" التى تتنقل بين الأزمنة فى مدن الأشباح، فكل ما حولى كان قد أصبح سرابا، وكل من حولى لم يكونوا سوى أشباحا فى رحلة أزلية، يتجولون بين شراسة الواقع وقسوة المستقبل.
مشاركة