غالبا تُفرق السياسة ولا تُجمع، فانحيازاتها وخياراتها قد تجعل من أصدقاء الأمس أعداء اليوم، فلنهرب (ولو قليلا) من لفح نارها وشدة لهيبها لنستظل فى واحة القرآن والسيرة العطرة.
إن لله سننا لا تتبدل ولا تحابى أحدا، يُجريها الله سبحانه وتعالى على من يحب، وعلى من لا يحب، قال تعالى : [فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) فاطر].
مشاهد متقابلة للمشركين
وقف أبو سفيان فى ساحة القتال يوم أحد مزهوا بانتصاره المؤقت فى إحدى جولات المعركة، وقد ظن أنه قد حسم أمرها، فنادى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبى بكر وعمر بن الخطاب، فأوصاهم سيد الخلق ألا يجيبوه، لأن الأمر لا يتعلق بأشخاص مهما بلغت مكانتهم، ثم صاح: اعلُ هبل!.. هنا أصبح الأمر يتعلق بعقيدة فأوصاهم النبى بالرد قائلا: "قولوا له: "الله أعلى وأعز".. ثم قال أبو سفيان فى غطرسة وكبر: "لنا العزى ولا عُزى لكم.. فأوصى النبى أصحابه أن يجيبوه بالقول: "الله مولانا ولا مولى لكم"..
تمر الأيام، وبعد خمس سنوات من هذا المشهد ينقلب الحال، فإذا بأبى سفيان يلهث من مكة إلى المدينة (قبل قدوم النبى لمكة فاتحا) ليتسول سبيلا للنجاة، فيعطيه النبى صلى الله عليه وسلم ثُلث وسائل النجاة فى يوم الفتح مما يسمح له بالفخر فى بنى قومه (فمن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل البيت الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن).
مشاهد متقابلة للمسلمين
حينما دخل الجيش المسلم مكة فاتحا، انتصر بأخلاقه، فحينما قال سعد بن عبادة: "اليوم يوم الملحمة.. ؤاليوم أذل الله قريشا.. حجب النبى - صلى الله عليه وسلم - عنه الراية، وقال: "بل اليوم يوم المرحمة..اليوم أعز الله قريشا"!
وحينما أراد العباس أن يجمع بين الحجابة والسقاية فى البيت الحرام، لم يستجب له سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - بل أعطى مفتاح البيت لعثمان بن طلحة الذى منعه يوما من دخول الكعبة قبل الهجرة، وعفا النبى صلى الله عليه وسلم - عفوا لم تشهد البشرية له مثيلا حين خطب فيمن آذوه واضطهدوه وهجّروه وقتلوا أصحابه ومثلوا بجثمان عمه حمزة فقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء.. كانت تلك المشاهد تعكس قيما عظيمة وأخلاقا راقية، ويظل مشهد دخول النبى - صلى الله عليه وسلم - مكة فاتحا شاكرا لله تكاد جبهته أن تمس ظهر ناقته القصواء تواضعا لله المُنعم واهب النصر ليؤكد ويرسخ قيمة (التواضع) العظيمة، ولم لا؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كِبر... يا الله... مثقال ذرة.. فمن ينجو إذن إن لم يتغمدنا جميعا بعظيم وواسع رحمته.
وتمضى الأحداث، وبعد مشهد الفتح بأيام قليلة يتوجه الجيش الفاتح إلى حُنين، وقد غاب عن بعض كرام الصحابة بعضا من خُلق التواضع وحل محله قدرا من العُجب، فقال أحدهم: ( لن نُغلب اليوم من قلة).. فغاب النصر عنهم واحتجب [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] التوبة (25)
لقد كان النصر يوم الفتح أخلاقيا بامتياز بما فيه من عدل ورحمة وتسامح وعفو وتواضع.. وحينما تضعف الأخلاق أو تتدنى فإن الهزيمة لا محالة تلحق حتى بأقوى الجيوش (حدث ذلك لجيوش الروم والفرس قديما.. كما جرت حديثا للأمريكان فى فيتنام وللروس فى أفغانستان).
فإذا حدث ذلك لجيوش ودول وحضارات قديما وحديثا، أيظن أحد أنها تغيب عن جماعات أو تيارات أو أحزاب أو اشخاص؟
ولعلنا نكرر ما كتبه د.عبد الحليم عويس (رحمه الله) فى كتابه القيم (أوراق ذابلة من تاريخنا):[إن الانتصار فى معركة والحصول على مكسب وقتى.. والوصول إلى السلطة.. هذه كلها ليست قضية التاريخ.. ولا معركة التقدم البشرى.. بل هى عموما ليست من عوامل تحريك التاريخ إلى الأمام أو الخلف على نحو واضح وضخم.. إن الانتصار فى معركة لا يعنى الهزيمة الحقيقية للخصوم، فحين لا تتوافر العوامل الحقيقية للنصر يصبح أى نصر مرحلى عملية تضليل!! واستمرارا للسير الخطأ وتماديا فى طريق الوصول إلى الهزيمة الحقيقية.. هكذا سار التاريخ فى مراحل كثيرة من تطوراته.. كان النصر بداية الهزيمة.. وكانت الهزيمة بداية للنصر..
وحين يصل إنسان (أو جماعة) ما إلى الحكم دون أن يكون مُعدا إعدادا حقيقيا للقيادة.. ودون أن يكون فى مستوى أمته يكون وصوله على هذا النحو هو المسمار الأخير الذى يُدق فى نعش حياته وحياة الممثل لهم]..
