صلاح عيسى

فى باب «أحكام لها العجب.. ومسلمون لهم العجب!»

الخميس، 10 مايو 2012 09:49 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
خلال أسبوعين متتاليين من الشهر الماضى، أصدرت محكمتان مصريتان حكمين متناقضين فى دعوى قضائية أقامها محام واحد ضد الفنان «عادل إمام» يتهمه فيها بازدراء الدين الإسلامى، ويستند فيهما إلى مقتطفات من جمل الحوار التى وردت على لسانه فى بعض أفلامه ومسرحياته، قضى الحكم فى الدعوى الأولى التى أقيمت ضده وحده بحبسه ثلاثة أشهر مع الشغل، وقضى فى الثانية التى شاركه الاتهام فيها عدد من صناع أفلامه ببراءته وبراءتهم، مع أن أدلة الاتهام فى القضيتين- وهى جمل الحوار التى وردت على لسانه أو على ألسنة غيره- هى نفس الأدلة، ومع أن المادة القانونية التى استند إليها المدعى وحكمت استنادا إليها كل من المحكمتين, واحدة!
وطبقا لعريضة الدعوى فقد ارتكب «عادل إمام» جريمة ازدراء الإسلام، لأنه استخدم لحن أنشودة «أسماء الله الحسنى» مع تغيير الكلمات فى خلفية مشهد دخول الديكتاتور إلى خشبة المسرح فى مسرحية «الزعيم»، ولأنه قلّد طريقة الشيخ «محمد متولى الشعراوى» فى الحديث، فى أحد مشاهد فيلم «الواد محروس بتاع الوزير»، مما يعتبر استهزاء بمظهر الدين الإسلامى، ولأنه فى فيلم «حسن ومرقص» قال لآخر: «يعنى عاوزنى أرشى ربنا»، مما يعتبر تطاولا على الذات الإلهية، ثم إنه استهزأ بسنن الرسول، لأن إحدى الشخصيات قالت فى فيلم «الإرهابى»: «العالم طلع القمر.. ولسه فيه ناس عندنا بتقول ندخل الحمام بالرجل الشمال مش بالرجل اليمين». تلك هى الأدلة «الدامغة» التى أخذت بها المحكمة التى حكمت بحبس «عادل إمام»، وهى نفسها الأدلة التى أهدرتها وفندتها المحكمة التى حكمت ببراءته، إذ اعتبرت استخدام لحن أسماء الله الحسنى فى مشهد دخول الديكتاتور تحقيرا من شأن الديكتاتور الذى يسعى لإضفاء القداسة على شخصه، ولم تجد فى تقليد شخصية الشيخ الشعراوى استهزاء بالدين، لأن من الخطأ إضفاء القداسة على رجال الدين أو على فكرهم.. ولم تجد فى بقية العبارات مساسًا بالدين الإسلامى يتطلب إدانة «عادل إمام» وزملائه، بل قالت إنه لا يوجد ما يمنع من إظهار شخصية لا تؤمن بالله فى أى عمل فنى، لأن المجتمع يضم المؤمنين وغير المؤمنين. وكنت مازلت أبحث عن حيثيات الحكم بإدانة «عادل إمام» لكى أضيفها إلى الطبعة الجديدة من كتابى «شخصيات لها العجب»، فى باب بعنوان «حيثيات لها العجب» حين وقع فى يدى طبعة حديثة من رواية «زاديج» التى كتبها الفيلسوف الفرنسى «فولتير» عام 1848، وترجمها «طه حسين» عام 1947، وصدرت ضمن مطبوعات مجلة «الكاتب المصرى» ففوجئت بأن الناشر، وهو إحدى هيئات وزارة الثقافة المصرية، قد غيّر العنوان الذى صدرت به الترجمة العربية فى طبعتها الأولى من «زاديج أو القدر» إلى «زاديج أو القضاء»، فأدركت على الفور أن «القدر» قد دخل فى خانة المحظورات، بعد أربعين عاما من الضجة التى أثارها غناء «عبدالحليم حافظ» للقصيدة التى كتبها «كامل الشناوى»، وغناها «عبدالحليم حافظ» وفيها بيت يقول: «قدر أحمق الخُطا حطمت هامتى خطاه»، إذ ذهب بعض المتشددين أيامها إلى أن الإيمان بالقضاء والقدر هو من أسس العقيدة الإسلامية، وبالتالى لا يجوز التنديد بهما، أو الاعتراض عليهما، مما يتطلب إيقاف إذاعة الأغنية، مع أن أحداً لم يلتفت إلى هذه الضجة أيامها، انطلاقا من أن المصريين تعودوا حتى فى حديثهم العادى أن يستخدموا كلمة «القدر» فى الإشارة إلى الظروف الاجتماعية الضاغطة، أو الخطأ الإنسانى الذى يعجز الإنسان عن صد نفسه عن ارتكابه، ولا تنصرف أذهانهم حين يقولونها أو يسمعونها فى مجال التنديد بها إلى الذات الإلهية، أو إلى أمور الاعتقاد، ولذلك قررت أن أفرد لهذه الواقعة وأشباهها فصلا آخر فى كتابى «شخصيات لها العجب» بعنوان «ناشرون لهم العجب»! ولأن الشىء بالشىء يذكر، فقد ذكرتنى الأحكام فى قضايا «عادل إمام» بما حدث فى مثل هذه الأيام منذ 14 سنة، عندما رحل الشاعر الكبير «نزار قبانى» عن عالمنا فى أول مايو 1998، إذ ما كاد جثمانه يدلف إلى المركز الثقافى الإسلامى بلندن، لكى يقوم أهله وأصدقاؤه والمعجبون بشعره بصلاة الجنازة عليه، حتى اعترض طريقهم أحد المتشددين الإسلاميين ليعلن أن «نزار قبانى» ليس مسلما، وأن الصلاة على جثمانه لا تجوز، وسانده آخرون فى عملية كان واضحا أنها مخططة سلفا، أثارت الارتباك فى صفوف المصلين، وكادت تتحول إلى اشتباك بينهم وبين المعارضين فى الصلاة على الجثمان، إلى أن حسم مدير المسجد المشكلة، فأعلن أنه لا توجد جهة من سلطتها أن تصدر شهادة بمدى إسلام كل مسلم يموت لتكون أساسا للسماح بالصلاة على جثمانه، وعلى الذين يجدون فى أنفسهم شيئا على الميت أن يتنحوا عن الصلاة عليه، إذ هم ليسوا ملزمين بذلك، لأن صلاة الجنازة فرض كفاية، إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وانتهت المناقشة بحل وسط فأقيمت الصلاة فى الباحة الخارجية للمسجد، وانسحب المعارضون منها بعد أن تسببوا فى فضيحة دولية للمسلمين ظلت أجهزة الإعلام العالمية التى كانت تتابع الجنازة تتحدث عنها أسابيع طويلة فى بلد يزدحم بمن يتصيد أخطاء المسلمين، وينفخ فيها النار، ويسعى لتصوير الإسلام نفسه كدين تتصادم تعاليمه مع الحضارة والتقدم، وتحرض على القتل، وتصادر حرية المسلمين وغير المسلمين، وتشعل المحارق، وتفتل المشانق لكل من يجتهد برأى أو يقول بيت شعر أو يرسم لوحة. والأسباب التى استند إليها الذين عارضوا الصلاة على نزار قبانى تدعو لنفس العجب الذى تدعو إليه الأسانيد التى استند إليها المحامى الذى رفع الدعوى ضد «عادل إمام»، وتقدم نموذجا للعقلية التى يفكر بها هؤلاء المتزمتون، ففى رأيهم أن نزار لم يسخّر شعره لخدمة الإسلام والمسلمين، بل سخّره لشعارات القومية العربية والحب والمحبوبين، وأن بعض مصطلحاته كانت تشيع الفسق والفجور مثل قوله: «يا ولدى قد مات شهيداً من مات فداء للمحبوب»، وأنه كان يسخر فى شعره من القدر خيره وشره، وأن مواقفه من الهرولة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ورفضه الانبطاح والخضوع للهيمنة الأمريكية لا تشفع له، لأن هذه المواقف لم تحقق ما طالب به! أيامها كتبت أقول إن معنى هذا الكلام الخائب أنه لو حدث وتولى مجتهدو آخر الزمان هؤلاء حكم بلاد المسلمين فسوف يحرقون ديوان الشعر العربى كله، ويمنعون الصلاة على كل الأدباء والفنانين والمفكرين الذين يدعون للقومية العربية، أو لغيرها من الأفكار التى لا تتطابق مع فهمهم السطحى والمبتذل للإسلام، وأضفت أقول إن ذلك أمر تدل كل الشواهد على أنه لن يحدث سواء بالنسبة لهم أو لغيرهم من الأصوليين الإسلاميين، لأنهم بما فعلوا ويفعلون لا يصدون المسلمين عن دين الله فقط، بل يحرضون كذلك ضد الإسلام والمسلمين، ويعطون أعداءهم الذريعة لاقتلاع المسلمين من فوق خريطة الدنيا.. وبذلك لا يصبح هناك مسلمون لكى يحكموهم، ولا تعود هناك حضارة إسلامية لكى يدمروها، أما وقد أثبتت الأيام أن نبوءتى لم تتحقق، وأن العكس منها هو الذى اقترب من التحقق، فإن ذلك يتطلب إضافة فصل آخر إلى الكتاب بعنوان «نبوءات لها العجب».. ورحم الله نزار قبانى الذى مرت ذكراه منذ أسبوعين ولم يتذكرها أحد، والذى عاش حياته يحلم بوطن حر، لا يعاقبه حكامه لأنه قال قصيدة، أو رسم فراشة، فإذا ببعض أبناء هذا الوطن يجهضون حمله حيا.. وميتاً.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة