خرجت لتشترى احتياجات المنزل من الخارج، فلابد أن تشترى ما يكفيها هى وزوجها وأولادها الثلاثة لمدة يومين على الأقل، وهذه كانت نصيحة زوجها لها قبل أن يذهب إلى عمله حيث أوصاها بشراء ما يكفيهم نظرا لظروف المظاهرات وتوقع حدوث ثورة.
وأكمل توصياته بضرورة توخيها الحذر ولولا أن عمله لا يسمح له بالإجازة لكان قام هو بهذا العمل، نزلت الزوجة للسوق وبينما كانت تشترى حاجاتها لاحظت أن السوق على غير عادته، فكان خاويا على عروشه وقد ندر وجود الناس به مما أصاب معظم الباعة بالإحباط الشىء الذى جعلهم يغلقون محلاتهم وينصرفون ومثلها مثل الكثيرين ما كانت تتوقع أن الوضع سيصل لهذا الحد.
وفى تلك الأثناء تذكرت ولديها الذين كانا يستعدان للنزول قبل نزولها مباشرة من المنزل لأداء صلاة الجمعة فى المسجد.
أسرعت الأم فى شراء ما تحتاجه ثم هرولت إلى المنزل أملا فى اللحاق بهما قبل أن يغادرا، ولكن هذا لم يحدث وعندما سألت ابنتها عن أخويها أجابتها بأنهم غادرا منذ دقائق لأداء الصلاة.
دقات القلب سريعة والدموع تزرف من غير بكاء ولهفة على الأبناء تتجسد فى رعشة فى الأطراف، هذا كان حال الأم تلك الحظات.
انتظرت الأم على مقربة من النافذة تراقب الشارع الخالى من الناس مما زادها خوفا وقلقا على ما بها.
وفجأة سمعت الأم خطوات سريعة مارة من الشارع أسرعت ناظرة من النافذة فإذا بأحد الجيران عائد إلى منزله بالخطوة السريعة فسألته عن سبب عودته إلى المنزل قبل أداء الصلاة، فأجابها أن الوضع أمام المسجد خطير وجنود الأمن المركزى يصطفون خارجا وكأنهم ينتظرون أن ينتهى الناس من الصلاة حتى يجيروا عليهم واحدا بعد الآخر.
يزداد قلق الأم وخوفها وإحساسها بالعجز، حيث إن ليس لديها خيار سوى الوقوف بقرب النافذة تراقب وتنتظر.
وبعد انتهاء المصلين من الصلاة وقد بدأت أصوات الرصاص تدوى فى جنبات الشوارع، والغاز المسيل للدموع يملأ السماء ويكتم الأنفاس، والناس عائدة تهرول إلى المنازل يصطدمون ببعضهم البعض وكأن الحرب قد قامت وأن هناك عدوا غادرا شـن هجوما عنيفا عليهم ولم يجدوا غير منازلهم ليحتموا بجدرانها.
وهنا رأت الام أحد ولديها قادم من بعيد فى حالة يرثى لها فقد أصابته حالة اختناق شديدة والدم ملأ قميصه الأبيض حتى احمر لونه، هرولت الأم تجاه ولدها لتعرف ما أصابه فأخذت تجرده من ملابسه وسط الشارع وهى تصرخ خوفا من إيجاد أى جرح أو خدش قد أصابه ولكنها لم تجد بجسده أى شىء من ذلك وتيقنت أن الدم الذى سال على قميصه ليس دمه بل دم شخص آخر كان بجانبه، وبدأت الأم تسأل ولدها فى لهفة وقلق وخوف
"هل هذا دم أخوك ؟ انطق ؟"
فما من الابن إلا أن يهز رأسه بنعم
"قتلوا أخوك ؟ قتلوه إزاى ؟ وهو فين دلوقتى ؟"
أسئلة جاءت على لسان الأم ملتحمة بالصراخ المدوى الذى اهتزت له جدران المنازل المجاورة وما لحق الجيران من التجمع حولها لتهدئتها إلا وجمع من الشباب قادمين بخطوات سريعة وبكاء حارق ودموع منهمرة تسقط على الطرقات ممزوجة بقطرات الدماء التى تسقط من ولدها المحمول على أعناقهم.
وصل الشباب إليها بولدها وأبلغوها فى حرقة أنه استشهد نتيجة سيل من الرصاص الحى على جسده الطاهر عقب الصلاة مباشرة.
علا صوت الصراخ واحتضنت الأم ولدها لآخر مرة وكانت ترجوه أن يتكلم... أن يعطيها أى أمل بأنه قد يعيش، ولكنه لم يفعل لأنه مـــات.
ومات الابن وتركها حزينة عليه دموعها لاتجف، ألمها لا يهدأ، حرقة قلبها تشتد للأخذ بثأره والنيل ممن تسبب فى قتله.
وها نحن بعد مرور أكثر من عام على قتل ولدها ودموعها مازالت تزرف وقلبها ازداد حرقة.
لو وضعنا أنفسنا مكان أمهات الشهداء وهن يرون أولادهن يتهمون بعد موتهم بأفظع التهم ( بلطجية... مدمنين... مأجورين.. لصوص.. وغيرها) ويجدن برلمانا هزليا يفاصل فى أثمان جثث أولادهن قبل أن يقرر القصاص لهم.
ويجدن المجلس العسكرى يبحث عن الخروج الآمن خوفا من المحاسبة.
ويجدن الرئيس المخلوع يعامل كالملائكة فى محبسه الفندقى.
وتيارات سياسية تريد السيطرة على البلد لحماية مصالحها الخاصة.
ماذا كنا سنفعل ؟؟؟؟!!!
أفيقوا يا قوم.... دم إخوتنا لم يجف
