يخطئ من يتصور أن السياسة بلا أخلاق، أو أنها خداع ومراوغة على طول الخط، فالسياسة علم وممارسة، وهناك علاقة تبادلية بين الجانبين لمن يضع المصلحة العليا للوطن قيمة عليا، فالممارسة السياسية يمكن أن تكون فى سياق السياسة كعلم ودون انحراف، وقد تنحرف عما هو مستقر عليه فى العلم تحت ضغوط الواقع وطبيعته التحولية، وفى هذا السياق فإن الممارس السياسى الواعى والناضج والمدرك للمصلحة العليا اللوطن، يدرك مسؤوليته التاريخية، ويتصرف فى ضوئها، وعلى ضوء قراءته للمشهد السياسى بنوع من التجرد الشخصى، ويتصرف السياسى فى ضوء المتغيرات التى يدركها مع الآخرين فى إطار التفاعل الحى والمستمر والخلاق بما يحقق مصلحة الوطن دون خداع أو كذب أو تآمر أو تقديم المصلحة الشخصية والسياسية على المصلحة العليا للوطن، ومع ذلك يظل السياسى وقد اتسم بالاستعداد للمرونة مع الآخرين توصلاً للحلول الوسطى التى تعكس الإرادة العامة التى تتشكل من خلال تفاعل لمجموع الإرادات المختلفة والمتباينة فى الرأى.
وعلى النقيض من ذلك، يظل البعض من الممارسين السياسيين يتصور أن السياسة عملية «خداع ومكر وخبث ودهاء وكذب»، وأن السياسى الذى لا تتوافر فيه هذه الصفات، هو سياسى فاشل، ولا شك أن هؤلاء قد يذكرهم التاريخ باعتبارهم النماذج السياسية، على النقيض فمن يمارسون السياسة من أجل إعلاء القيم الإيجابية حتى لو انهزموا، باعتبارهم نماذج إيجابية، بل يعتبر كثيرون أنهم مفجرو الثورات السياسية والاجتماعية فى التاريخ الإنسانى، وهؤلاء كثيرون فى التاريخ العالمى، بل فى تاريخ مصر، وفى مقدمتهم الزعيم جمال عبدالناصر.
ومنذ السبعينيات فى القرن العشرين، أى خلال الأربعين سنة الأخيرة، تفجرت تجمعات الإسلام السياسى فى العالم، وعلى وجه الخصوص فى المنطقة العربية والعالم الثالث، بما عرف بفكرة «الإحياء الإسلامى».
وبغض النظر عن التفاصيل، فإننى من الذين كتبوا وتحدوا الكبار من الكتاب الذين كانوا يروجون لخطاب سياسى مضمونه أن هذه الظاهرة عابرة وستزول بسرعة، كنت أتوقع أن الإسلام السياسى قادم وفى ازدياد وليس تراجعا، وفى تقدم وليس فى انحسار، وذلك استناداً إلى مشروع فكرى متكامل، وقد وصلت الأمور إلى حد اعتبار الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون فى كتابه الشهير: «انتهزوا هذه الفرصة»، أن العدو القادم للولايات المتحدة بعد تفكك «الاتحاد السوفيتى» هو الإسلام، فأطلق صيحته «فاحذروا»!!
ولا يستطيع أحد أن ينكر تقدم الإسلام السياسى وتراجع المشروعات السياسية الأخرى بجميع فصائلها، حتى إن البعض فسر ثورات «الربيع العربى»، بأنها ثورات إسلامية بالأساس رغم المبالغة فى ذلك.
وقد كان لزاماً على أصحاب المشروعات الإسلامية المختلفة، أن يقدموا النموذج الأخلاقى فى الممارسة السياسية، دعما لفكرة التطابق بين الفكر والممارسة، وارتفاعاً بمستوى الممارسة حتى التأثير على الفكر وتطويره وفقاً لمقتضيات الواقع دون انزلاق إلى الممارسات السلبية التى تتسم بالكذب والخداع لما لهذا من تأثير على حاضر ومستقبل هذه المشروعات الإسلامية، وإفقاد لمصداقيتها وانعكاسها على شعبيتها الجماهيرية.
وفى قراءة للواقع السياسى المصرى فى الأسابيع الأخيرة حيث تفجر العديد من القضايا والأزمات هى حصاد المسار الخاطئ بعد ثورة 25 يناير وحتى الآن، وفى مقدمة هذه القضايا تشكيل الهيئة التأسيسية للدستور، ويمكن تسجيل العديد من الملاحظات على هذه القضية التى وصلت إلى حد «الأزمة»:
1 - التفسير العمدى الخاطئ للمادة «60» من الإعلان الدستورى، التى تضمنت وظيفة مجلسى الشعب والشورى فى انتخاب الجمعية التأسيسية للدستور، حيث اختزلت الأغلبية المهيمنة على المجلسين من تيارات الإسلام السياسى العملية، كلها فى تحديد نسبة أعضاء اللجنة من بين أعضاء المجلسين، وكذلك من الخارج، لتصل النتيجة إلى المناصفة فى تكوين اللجنة «%50 من أعضاء المجلسين و%50 من الشخصيات خارج المجلسين»، فى حين أجمعت الآراء فى غالبيتها على قصر عضوية الجمعية على شخصيات من خارج المجلسين، بحيث تنحصر وظيفة المجلسين فى انتخاب الجمعية التأسيسة من بين المرشحين بعد استيفاء المواصفات التى يجب على المجلسين وضعها بعد التوافق مع الرأى العام وقطاعاته التمثيلية، إذن كان الأصل هو أن وظيفة المجلسين وظيفة تنسيقية بوضع القواعد والمواصفات، ثم فتح باب الترشح لمن تنطبق عليه المواصفات، ثم إجراء الانتخابات لانتخاب المائة من بين المرشحين، مراعاة لعنصرى الكفاءة والتمثيل القومى والتكامل.
لكن الواقع شهد أمراً آخر، حيث أدارت الأغلبية الأمر دون مراعاة للصالح العام، وقصر المسألة على تحقيق المصالح السياسية الخاصة بها.
2 - الإدارة الفعلية الخاطئة لعملية الانتخابات التى أجريت يوم السبت 24 مارس الماضى، حيث حددت الأغلبية القائمة التى تريدها دون تشاور مع الآخرين، ومررتها على أعضائها، لتكون النتيجة هى نجاح القائمة المنشودة والمخطط لها من الأغلبية بالكامل، الأمر الذى يشير إلى إصرار الأغلبية على إدارة العملية بما يتفق مع رؤيتها ومصالحها الذاتية.
3 - الانسحاب والرفض من القوى السياسية المختلفة داخل المجلسين من غير قوى الإسلام السياسية «خارج الأغلبية»، لنتيجة الانتخابات قبل ظهورها، حيث انسحبت بعض القوى السياسية وبعض الأشخاص المستقلين، من جلسة الانتخابات وأعلنوا رفضهم لما جرى، وطالبوا بإلغائه وتصحيح ما تم، وقد انضم إليهم كثيرون حتى وصل عدد الرافضين من أعضاء اللجنة بعد انتخابها رسمياً حوالى «30» عضوا رسمياً بخلاف عدد آخر من الاحتياطى، وقد بدأ حزب التجمع الرفض، ثم تبعه عدد من الأحزاب الأخرى الجديدة، ثم حزب الوفد وبعض الشخصيات الأخرى، واللافت للنظر هو الانسحاب الرسمى لممثلى «المحكمة الدستورية، والأزهر، والكنيسة»، وسط استغراب شديد على جميع الأصعدة، فضلاً عن ذلك رفض عدد من الشخصيات المنتمية لجماعة الإخوان المسلمين، وفى مقدمتهم د. محمد حبيب، ود. كمال الهلباوى، وآخرون، مؤكدين أن ما حدث هو كارثة تستدعى التراجع عما تم، نتيجة الأثر السلبى المتوقع على الإخوان المسلمين.
4 - السير فى الإجراءات والاستمرار فى عمل اللجنة من جانب الأغلبية مع تجاهل الانسحابات الضخمة التى وصلت إلى ثلث أعضاء الجمعية التأسيسية، والأسوأ هو تصريح من جانب د. محمد الكتاتنى «بأن كل شىء تمام وعال العال!!» فضلاً على اعتبار الذين لم يحضروا غائبين، وليسوا منسحبين، لأنهم لم يقدموا اعتذارات رسمية طبقاً لفتوى الشيخ محمد سامى مهران «أمين المجلس» - بعد أن ألبسوه العمامة بدلاً من الشعر المكشوف أيام مبارك - وهذا السلوك التجاهلى يتعارض مع قيم الحوار، ويتعارض مع قواعد الممارسة الديمقراطية الصحيحة، ويتعارض مع الخطاب المعلن من هذه الأغلبية من قبل، بأن لجنة الدستور هى لجنة تمثيل المجتمع، وأن الدستور سيكون توافقياً وليس تعبيراً عن فئة واحدة دون أخرى، الأمر الذى يؤكد تناقض الخطاب السياسى للأغلبية «إخوان وسلفيين» مع سلوكهم السياسى، الأمر الذى يشير إلى خديعة سياسية تضاف إلى جملة «الخداعات» السابقة.
5 - محاولة المجلس العسكرى اقتناص الفرصة وممارسة وظيفة «الحياد الإيجابى»، واستهدافاً للاستقواء بالقوى السياسية المختلفة فى مواجهة الأغلبية من قوى الإسلام السياسى، التى تصر على الإطاحة بالجميع والنكوص عن كل الوعود، حيث قام المجلس العسكرى بدعوة من يراه لمناقشة ما يراه واستخلاص ما يراه، وكانت النتيجة هى الحفاظ على ما قرره الإخوان والسلفيون، والاستمرار فى الأمر، مع تعديل بعض الإجراءات بتشكيل لجان نوعية تضم العديد من الأسماء!! والسؤال: ألا يدرك المجلس العسكرى أن كل شىء جاهز، وأن القرار فى نهاية الأمر للغالبية التى شكلت الجمعية التأسيسة بإرادتها المنفردة وبالتالى فإن الدستور القادم بإرادتها المنفردة أيضاً؟! ومن ثم فشلت الجلسة وسط رفض القوى السياسية الفاعلة، رغم الزعم باتفاق وموافقة آخرين، ويكفى لعدم المصداقية المتحدث الرسمى للاجتماع المعروف عنه ولاءاته للجالسين فى الكراسى!!
6 - عدم الطمأنينة داخل المجتمع كله من جراء ما فعلته الأغلبية التى أصرت ومازالت تصر على اختطاف الجمعية التأسيسية للدستور غير مكترثة أو مهتمة بردود الأفعال، وقد ذكرتنا بالرئيس المخلوع وحزبه الوطنى المنحل، الأمر الذى دعا العديد من الرموز السياسية المحترمة إلى الدعوة إلى تأسيس جمعية وطنية بديلة، لإعداد دستور مواز يعبر عن الإرادة الشعبية فى مواجهة جمعية الإخوان والسلفيين، وقد انضم لهذه الفكرة عدد من أعضاء مجلسى الشعب والشورى الحاليين لدعمها والمشاركة فى أعمالها.
7 - تدنى الخطاب السياسى للأغلبية فى مواجهة المنسحبين من لجنة الإخوان والسلفيين، حيث ظهرت ردود الأفعال، على لسان المرشد الحالى «د. محمد بديع» الذى صرح بأن «الإعلاميين هم سحرة فرعون»!! متهما رجال الإعلام فى عمومهم بالدجل على الشعب، وتوجيه الناس لمعاداة الإخوان، فضلاً على أن المرشد السابق «د. محمد عاكف» صرح بأن «مهاجمو التأسيسية لسانهم طويل.... إلخ» مما يتعفف قلمى عن ذكره!! وآخرون فى داخل مجلسى الشعب والشورى، وخارجه من رموز الإخوان وجهوا هجوماً بالمدفعية الثقيلة على المعارضين لهم!! فقلت فى سرى: يا سبحان الله!! حتى لا يسمعوا فيقرروا توقيع حد الحرابة على شخصى الضعيف!!
وفى ضوء ما سبق فإن ما تصرفت به الأغلبية «إخوان وسلفيين»، هو من قبيل المخادعة السياسية للقوى السياسية الأخرى، حيث نقضوا العهد بأن الجمعية التأسيسية للجميع، فاستأثروا بأكثر من %70 «فوق الثلثين»، وقالوا إن الدستور يكتبه الجميع بالتوافق، وأكدوا بالممارسة أنهم يمارسون سلوك الغالبية التى تنفرد وتحتكر القرار، متمسكة بالشكل فى الحسم عن طريق العدد الذى تمتلكه الأغلبية، دون مراعاة لحقوق الآخرين فى الدستور، ومن ثم تضاف إلى سابقة سجلهم فى المخادعة هذه الواقعة المحورية وهى اختطاف دستور البلاد لكى يكتبوه على هواهم، ويطرحوه للاستفتاء تحت شعار «نعم: واجب شرعى» مثلما فعلوا فى الاستفتاء الفتنة فى 19 مارس 2011م، ومثلما نقضوا العهد فى «مشاركة لا مغالبة» لتتحول للعكس، وفى عدم سعيهم للسلطة، ليؤكدوا نهمهم السلطة، وأنهم لا يحلمون بالوزارة قبل الانتخابات، وقدموا فروض الطاعة للجنزورى «رئيس الحكومة»، ليكشفوا بعد ذلك نية أخرى حيث يصرون على الإطاحة به وسحب الثقة بين التلويح والتهديد، كما وعدوا بأنهم لن يقدموا مرشحاً للرئاسة، واتضح إصرارهم على ذلك، والبقية تأتى.
وختاماً: فإن الأغلبية «إخوان وسلفيين» قد أثبتت خداعها للقوى السياسية الأخرى وللشعب المصرى من خلال العديد من الوقائع آخرها إصرارها على اختطاف دستور الوطن، والثورة، ليقدموا لنا نموذجاً سياسياً سيئاً ومتناقضاً فى الممارسة السياسية، بدلاً من أن يقدموا نموذجاً أخلاقياً حضارياً، سامحكم الله على أفعالكم المناقضة لكلامكم.. وما زال الحوار متصلاً.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد ناصر
صفقة مع العسكر
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الحق
يخادعون ويخالفون شرع الله!
عدد الردود 0
بواسطة:
أ.د. طارق حسن المتولي
هل تعرف لماذا سميت الثورة - ثورة - لانها تكشف الثوريين المزيفين
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
الاخ ده
عدد الردود 0
بواسطة:
uoosefarbe
انت من الفلول فلاتتكلم عن الثورة
عدد الردود 0
بواسطة:
مجدى رضوان
الاخوان والسلفيين امل الامة وقلبها النابض بالعطاء
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد شبراوى
أبشروا فقد اقتربت الساعة
عدد الردود 0
بواسطة:
بورسعيدى
صدق أمير الشعراء