مقولة فرانسيس بيكون "إذا لم تحترم الدولة قواعد العدالة، فإن العدالة لن تحترم قواعد الدولة" ويقول ابن تيمية "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة"... لهذا يكتب التاريخ أقوالا ومواقف من مر بهم فى رحلته الأزلية، التى لا نهاية لها سوى بقيام الساعة، كى نتعلم من هذه الأقوال والمواقف ما يثرى تجربتنا الحياتية، فى هذه الرحلة القصيرة التى تمثل جزءا أقصر فى رحلة التاريخ، فالكلمة التى يدعمها موقف غير مناقض لها، هى التى تحجز لك مكانا يتحدث عنه من يأتون بعدك.
فكل من "بيكون" و"ابن تيمية" قد عبر عن العدالة والدولة من مفهومه وعقيدته، وبالمعنى البسيط عند بيكون أن العدالة لها قواعد على الدولة أن تحترمها وتنفذها، والدولة هنا تمثل فيما يُسن داخلها من قوانين تنظم العلاقات بين المواطنين وبعضهم البعض، أو بين المواطنين والدولة نفسها، فالدولة يجب أن تسن قوانين تحترم ولا تخرج عن مفهوم "العدالة" عامة ومفهوم "العدالة الاجتماعية" خاصة التى هى مسعى كل مواطن سوى منذ نشأت البشرية حتى الآن، وبما أن مفهوم العدالة لا يتعارض مع أى من الرسائل السماوية، فالعدالة هى الأساس المشترك الذى نريده كى تنصلح أمورنا فى هذه الدنيا، وللعدالة قواعد ومعان مختلفة داخل كل منا، يجتمع عليها غالبية الناس بغض النظر عن اختلافهم فى العقيدة والفكر والثقافة، ومن التاريخ علينا أن ندرك ونتعلم، أن كل دول الظلم أتت بما يخالف هذا المبدأ، فساد بها كل ما هو مضاد لفكرة العدالة على مختلف مستوياتها ومعانيها، فأصبحت الطبقية هى المتحكمة، وصار هناك نوعان أو أكثر من الناس، قسموا طبقات متدرجة من الأعلى إلى الأسفل، تشبه إلى حد كبير تدرج الشكل الهرمى الذى قمته رفاهية مكتسبة من معاناة قاعدته، وفى مقولة لجيفارا عن الظلم والمعاناة التى يتعرض لها الفقراء "فوق كل مائدة طعام يوجد شىء من جهد فلاح جائع" وقد يستمر هذا الوضع ويطول، إلا أن مصيره فى النهاية إلى الزوال حين ينقلب هذا الهرم رأسا على عقب بحثا عن العدالة الاجتماعية غير الموجودة، حتى وإن كثر الحديث المغلوط والمضلل عن أنها المسعى الأهم والشغل الشاغل للطبقة الحاكمة، وأنهم مؤرقون فى مضاجعهم من أجل تحقيقها لكافة المواطنين، وهى بالأساس وعن تجارب كثيرة، كلمات للدعاية وتخدير الشعوب ليس أكثر، حتى فى أكثر البلدان التى نادت بالمساواة المبنية على التوزيع العادل لثروات الدولة، كان هناك فشل حقيقى فى تطبيق هذه المفاهيم فسادت الطبقية، وكان هناك الفارق الشاسع بين الغنى، وبين الفقر المدقع، أيضا فى البلاد التى تبنت أنظمتها هذه المفاهيم وعلى سبيل المثال مصر، فقد تبنى عبد الناصر هذا الفكر وبدأ بالفعل فى تنفيذه، لكن واقعيا فالأمر معروف للجميع، فالطبقية فى مصر كان لها تواجد فى عهد "عبد الناصر"، انتشرت أكثر فأكثر وأخذت منحنى هاما مع الانفتاح فى عهد "السادات"، ثم أصبحت النخبة الحاكمة ومن على صلات قوية بهم فى عهد "مبارك" هم الأكثر تحكما فى مجريات الأمور بمصر، بل وتوغلوا بالدولة لدرجة أن أصبحت القوانين "تفصل تفصيلا" من أجلهم، فهم من كانوا يسنون القوانين، وهم من كانوا يناقشونها بالبرلمان ويوافقون عليها دون أدنى اعتبار للغالبية العظمى من أبناء الشعب المصرى التى حرمت من معظم مظاهر الحياة، حتى أصبح المصريون فريسة لا حول لهم ولا قوة فى براثن الرأسمالية الشرسة غير المحكومة، ومن هنا يأتى دور العدالة كى تتصدى للظلم الواقع عليهم– والمقصود بها هنا من وقع عليهم الظلم– فلا يمكن لمواطن أن يحترم قوانين الدولة التى لا تحترمه، بل وكانت سببا فى إثقال كاهله بالأعباء التى لا نهاية لها، ولا مبرر، ومن هنا يأتى دور المواطن فى السعى بشكل شرعى نحو تحقيق العدالة التى حرم منها من خلال ما تعتبره النظم الظالمة حدثا غير شرعى وهو"الثورات" والتى تقاومها هذه النظم بكل ما تمتلك من آليات القمع والظلم حتى تستمر دول المنتفعين قائمة.
من جهة أخرى فالعدالة قد يختلف مفهومها عند البعض، نتيجة ضيق الأفق، فأولئك الذين جعلوا من عقولهم مستقبِلا فقط، بل وقصَروا كل ما منحهم الله من إمكانيات فى عقولهم على مجال واحد فقط من علوم الحياة، وهو ما يصب داخلها من ألسنة رجال الدين سواء الثقات منهم أو غير الثقات، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتدقيق فيما يتلقونه، وبالتالى "فلترة" الأفكار التى تبث إليهم، لمعرفة ما يصلح منها وما لا يصلح، وما هو صحيح وما هو غير صحيح، بل لم يكلفوا أنفسهم عناء المقارنة البسيطة بين مفهوم العدالة من وجهة نظر خارج الإطار الذى حصروا أنفسهم داخله، فأخضعوا أنفسهم للنقل وأهملوا العقل، حتى اختلطت عليهم الأمور وأصبحت مفاهيم مثل الحرية، والعدالة، والمساواة، وغيرها ينظر إليها من منظار واحد غير واضح الرؤية على أنها متعارضة مع عقيدة المجتمع، وأصبحوا ينفرون من كل ما كتبه الذين اتهموهم بالعداء، ووضعوهم فى خانة الخصوم والمكفرين، وأقبلوا فقط على من يخدرون العقول.
فالعدالة بمعناها فى مقولة ابن تيمية، ليست عنصرا ثانويا، بل عنصر جوهرى وأساسى، وهى المقياس الذى يساعد فى تحقيق الغلبة للشعوب، بغض النظر عن مدى إيمان هذه الدول، فالعدالة لا دين لها، فقد وجدت من قديم الأزل وحتى الآن، فالشعوب التى نعمت بالعدل نعمت بالاستقرار، وانتصرت مبادئها واستمرت، أما تلك البلدان التى حرم شعبها من العدالة، كثر بها التوتر والسخط، فخلف كل باب كان هناك مظلوم ينتظر الفرصة التى يباغت فيها من حرمه الحياة الكريمة، فانهزمت هذه البلدان وتلاشت أو أصبحت لا قيمة لوجودها، فلابد لنا وأن نتذكر دوما أن "العدل هو أساس الملك".
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
رويدا
مثقف
اول مرة اشوف كاتب مثقف من الشباب