• القاهرة تختنق بآلاف السيارات لكنّها نابضة ومبهجة وحيّة، تطرد كلّ أسباب الملل
• صدمنا عندما اكتشفنا أنه لا أحد يعرف الشاعر عبد الرحيم منصور.. ولكنّ جماعة الهجرة للجنوب أنصفوه أخيراً، كرّموا إبداعاته وفسحوا المجال أيضا للعشرات من الشّباب لقراءتها كان مفاجئا لى
• قرابة الألف مستمع للشّعر، هذا أدهشنى وأكّد لى أنّ الشّعب المصرى هو شعب فنّان بالفطرة.. إنه مبعث فخر للشّعوب العربيّة التى لا يمكن أن تنسى لغة الضّاد
عندما أقلعت الطائرة من مطار القاهرة الدولى باتّجاه تونس كنت متلهّفا لمتابعة آخر الصور من النافذة الصغيرة.الأضواء بأشكالها المختلفة، دوائر وخطوط عرض وطول ترسم لوحة من دهشة وذهول.صور تمثال فى الذاكرة وتروى بعض اعترافات.
لا أخفى أنّى كنت أعرف مصر من خلال ما قرأت من كتابات طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وجمال الغيطانى وأحمد فؤاد نجم وأحمد عبد المعطى حجازى.. أعرف أحياءها ومقاهيها وملامح شعبها ولهجتها خاصّة.و لعلّ ولعى بسينما الواقع لعادل إمام ونور الشريف جسّم لى الملامح العامّة لمصر فى القاهرة والاسكندريّة، فى الدقى وبولاق وغيرها من الأحياء والمدن.
فى تونس كنّا نعرف كلّ شيء عن مصر، التضخّم السكانى، مشاكل السكن، البطالة، الكرة، أهرمات الجيزة، ونحبّ خاصّة نجومها الذين جسّموا لحقبات طويلة تاريخ هذا الشعب .
نحبّ سعد زغلول وجمال عبد النّاصر.
نحبّ الساندريلا سعاد حسنى والكوميدى الاستثنائى عادل إمام..
نحبّ الفنّ فى هذا البلد.
فى يومى الأوّل، كنت متشوّقا للتجوّل فى شوارع القاهرة .سائق التاكسى ابتسم وهو يعرف أنّنى تونسي.. قال وهو يشعل السيجارة: تونس بلد عظيم، أنتم يا عمّ بدأتم الشّغل ونحن أتممنا..
كان يحدّثنى ويشير أحيانا بيده إلى بعض المواقع..الكوبرى أو جسر 6 أكتوبر، المتحف، الأوبرا، المنتزهات بجانب النيل، دور السينما والمسارح.
الكوبرى كان مكتظا بالسيارات والواجهات مكتظة أيضا بصور المترشّحين للرئاسة.. ومن اللّافت أنّه لا أحد ينتبه لتلك الصور، الجميع يمضى إلى قضاء شؤونه وتدبّر حاجياته..لقمة العيش يا عم بلا سياسة ووجع رأس..هى دى القاهرة يا بيه، سباق يومى محموم ضدّ الساعة .
القاهرة تختنق بآلاف السيارات لكنّها نابضة ومبهجة وحيّة، تطرد كلّ أسباب الملل، وكلّ المبانى والواجهات تؤكّد أنّ هذا البلد هوّ بلد فنّ، لا أحد يشعرك أنّك غريب، يحيونك بابتسامة مرحّبة ويساعدونك بطيبة خاطر ..فى المقهى استمتعت فعلا باللهجة المصريّة من شباب متنوع ومختلف.يتحدثون عن السياسة والكرة والحب والمغامرات، يضحكون، يتناقشون، يلعبون الورق، يكتبون رسائل قصيرة فى هواتفهم الجوالة، يفعلون كل شيء بلا رقابة، بلا خوف، هذا هوّ شباب 25 يناير، شباب الثورة والحريّة..لا تصدر منهم كلمات خادشة للحياء، وهذا مهم لشباب كان مهمّشا ومكبّلا بالضغوطات.
حركة الحياة عاديّة، كلّ الفئات الاجتماعيّة تسير فى الشارع فى وئام، لا يمكن أن تميّز بين المسلم والمسيحى، بين المقيم والوافد.لكن، تنبعث أحيانا صرخات منبعثة من سائقى السيارات بسبب الاكتظاظ والتنافس على الممرّات. الاكتظاظ، هذا هو عيب القاهرة.
نمط الحياة لا يختلف عن شارع الحبيب بورقيبة بتونس..تحسّ بالأمن رغم الازدحام الشديد.تمضى إلى وجهتك بلا مضايقات..المكتبات منتشرة بشكل يوحى أنّ الشّعب يقرأ، والجرائد متعدّدة ومختلفة، والمترشّحون للرئاسة يستحوذون على الصفحات الأولى بلا منازع.
أبو العبّاس محمّد منسّق مهرجان الجنوب للشّعر العربى استقبلنا فى مقر مجلّة الأهرام باحترام كبير..وجهه كان يوحى بجديّة وحرفيّة وطيبة، ولم يحسّ الوفد التونسى بغربة فى المكان والزمان.وهذا مهمّ فى البدايات.
كانت الأمسية شيّقة وعفويّة..الجميع مجنّد للشّعر، للالتزام بالبرنامج المسطّر.و استحسنت فعلا دقّة التنظيم وحفل الاستقبال ..وجوه جديدة أكتشفها، أتحاور معها، وأحسّ أنى أعرفها منذ زمن.
الشّاعر أحمد عبد المعطى حجازى رئيس المهرجان كان بشوشا، متواضعا، تتدفّق كلماته متوهّجة ومسترسلة وتربط جسورا بين الثورة والشعر والشباب.
الشّاعرة راضية الشهايبى رئيسة تظاهرة 24 ساعة شعر وأمينة عام المهرجان كانت تونسيّة بامتياز، عانقت العلم التونسى وهى تشدو للحرية والجمال والإنسان:
اللاذقية تفتح ظلمتها للمجاز.
ها خراب الضوء يستغيث فى الشطر الآخر للمنفى
هنا
لا بحر لا زرقة لا مدى كالعدم تماما
فلا تصدقوا الخارطة
المشهد افرغ من خيالي
وانتظاراتى تتربص بى تهزمنى
مثل جندى اخطا المخبا
اللاذقية تسير بلا أتباع الموج وجسدى مشطور
ونخيل غريب بلا حجج يسالنى عنه فى غير المكان
وأخجل من سرب الحيارى يتضاحكن فى العتمة بلا هدى
يكسر نظرى باتجاه السؤال المتخفى
ياه يا شاطئ الجفاف كم يتعبك اللهاث نحو العطش
ياه يا سر اللاذقية المصلوب بفجوة العقبة
كم تفضحنا الارض .توزع دماءنا عارية شرابا للتراب
يااه يا دمنا …يا لوننا الهارب
و كذلك هتفت الشاعرة فاطمة الشريف فى قصائدها الجديدة..عبّرت عن هموم الأوطان العربيّة وانتصرت للقيم الكونيّة.
أمّا الشاعر جمال بخيت فقد انتفض كطائر الفينيق.قرأ قصيدته الحماسيّة دين أبوهم اسمه ايه، فكان متدفّقا ومربكا:
اية يا مصر
اية يا رض الطيبين
اللى حكمو فى الزمان دا يبقو مين
دين ابوهم اسمة اية؟
حد يعرف فيكو دين كل اتباعة لصوص
او قوادين
فى المعاصى مولودين
فى الكراسى مأبدين
فى التفاهة معدودين
فى السفاهة مفرودين
ع البلاهة مسنودين
للشراهة مجندين
ع القرف متعودين
ع الشرف متمردين
ع الوطن متمردين
بالخيانة موحدين
اللى يعرف دين كدا يقولى اسمة اية؟
أبو العبّاس محمّد، لا يهدأ، هوّ مهندس كلّ شيء، افتتح المهرجان والتحم بالجمهور..إحساس متدفّق ذلك الرّجل ،تراه فى تركيز شديد، فى سكينة وانفعال، يخطّط لاشكّ لاقتحام بقيّة المعابر.
وكذلك هى الصّحفيّة سحر الحديدى فى متابعتها لجدول الأعمال وترحيبها بالضّيوف.
إنّنا هنا فى مصر من أجل الشّعر العربي، من أجل الاحتفاء بشاعرين كبيرين هما أمل دنقل وعبد الرحيم منصور.
يوم الجمعة 30 مارس كان تاريخ اكتشافى لمحطّة رمسيس، فى اتّساعها وضجيجها، فى أروقتها وقطاراتها، أعرف هذه المحطّة من خلال الفيلم الخالد باب الحديد، فيلم الحرمان والحب، الخوف والملحمة..كنت أعرف بعض الزوايا القديمة، لكنّها تجدّدت بشكل واضح.الأكشاك منتشرة فى كلّ الأرصفة والأمواج البشريّة تتوافد للسفر أو تغادر القطارات فى حركة متماوجة بين المدّ والجزر.
فى قطار النوم المتوجّه من القاهرة إلى قنا، رأيت الأستاذ وحيد .يجلس بجسمه الممتلئ ووجهه العريض فى نادى القطار، هناك بإمكانك أن تنسى طول السّفرة إلى الصعيد وتشرب القهوة والشّاى بالفتلة وتستمع إلى الأغانى والمواويل الجنوبيّة ولا تحسّ أبدا كيف يتخطى القطار مسافة 720 كلم.
ارتحت إلى وجه الأستاذ وحيد ،اكتشفت ملامحه المصريّة الصريحة والعفويّة، يشعرك هذا الرجل براحة كبيرة وأنت تنظر إلى قسمات وجهه وتدرك أنّك تعرفه، إنّها ملامح الفنّان عماد حمدى فى هدوئه ووقاره، فى عفويّته وصرامته .. الأستاذ وحيد اختزل كلّ الملامح المصريّة التى تكوّنت لى من خلال قراءاتى ومشاهداتي.. وهى تقودك حتما إلى طيبة المواطن المصرى وعمق ثقافته.
الأستاذ وحيد أنيق فى ربطة عنقه وابتسامته، يتكلّم باقتضاب وتركيز، يحسم بعض الأحاديث أو المواقف بحركة خاطفة وابتسامة هادئة..خمّنت كم قطع هذا الرجل من كلم على متن القطار فى حياته وكم قابل من وجوه‼.وأيقنت أنّ سيرته تصلح لفيلم رائع.
مدينة قنا، أيّتها العروس السّاكنة فى أهداب النّيل، أيّتها الأنثى السّاحرة، كم كنت معطّرة بالزهور والرياحين.رائعة أنت فى شموخك الصعيدى ..كم تشعرين المسافر بكل طاقات الحبّ..فى محطّة القطار، فى الطرقات الواسعة والنظيفة، فى الكرنيش المحاذى للنيل المتدفّق، فى المنتزهات، فى الرسوم الجداريّة الفرعونيّة ،..فى الخضرة المنتشرة فى انتظام، فى الحقول الممتدة على جانبى النيل وفروعه.هناك أعدت قراءة رواية زينب لمحمّد حسين هيكل وتأمّلت ملامح المزارعين..و شاهدت من جديد فيلم الأرض..كم أنت عظيمة أيّتها الأرض، وكم أنت ساحر أيّها النّيل.
فى القلعة، كان اللقاء حارا وحميميا بأهالى الصّعيد، بقبر الشّاعر أمل دنقل، ببيته، بشقيقه أنس دنقل، ذلك الوارف فى ابتسامة لا تغيب عن ملامحه.
فى القلعة تحدّثنا عن أبى القاسم الشّابى، عن منوّر صادح، عن الشّعر التونسى ،عن تونس..النّاقدة آمنة الرّميلى تعمّقت أيضا فى دراسة شعر الثورة فى تونس ..وفى الحقيقة فإنّ الإخوة المصريين لا يعرفون الكثير عن الشّعر التونسى، بل لا يعرفون الكثير عن الأدب التونسى بشكل عام.. وقد قدّمت مداخلة بعنوان: نصوص من الشّعر التونسى الحديث :التّراكم والتغايروضّحت من خلالها سيرورة القصيدة التونسيّة من جيل الثلاثينات فى القرن الماضى إلى حدود جيل التّسعينات كما حللّت نماذج شعريّة لجيلى الثمانينات والتّسعينات وهى للشّعراء : محمّد الخالدى، محمّد الصّالح الغريسى، فاطمة بن محمود وراضية الشّهايبي.. وكان الشّاعر فتحى عبد السّميع حميما ولطيفا فى إدارة الحوار .. ولابدّ أن أسجّل هذا الحبّ الكبير الذى يكنّه أهل الصّعيد لتونس وللتوانسة، هذا الانطباع صريح فى الملامح والمواقف.
كناّ أكثر الوفود ترحابا، نعم هذا أسعدنا ولا أظّه يقلق الإخوة السّوريين والسودانيّين.. فى المساء أقيمت احتفاليّة للشّاعر الراحل أمل دنقل، الحضور كان مفاجئا لى، أدهشنى وأكّد لى أنّ الشّعب هو شعب فنّان بالفطرة، قرابة الألف مسمتع للشّعر، هذا مبعث فخر للشّعوب العربيّة التى لا يمكن أن تنسى لغة الضّاد، وأن لا تهمل حضارتها وثقافتها فى خضمّ الثورات المتواصلة فى وسائل الاتّصال. وأيقنت أنّ الكتاب لا يمكن أن يموت يوما..و أنّ الشّعر لا يمكن أن يموت.هى دور النّشر فقط تروّج لشائعات كساد الكتاب ..تنشر أحزانها الافتراضيّة لتربح أكثر، هذا كلّ شيء.
أمل دنقل، عرفنا كم أنت منسى وعظيم، كنت مبشّرا بالثورة، كنت شاعر الرّفض والتمرّد، كم نحبّ أن نعانقك، أن نتدثّر بكلماتك:
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهبْ
أترى حين أفقأ عينيكَ
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هى أشياء لا تشترى..:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما - فجأةً - بالرجولةِ،
هذا الحياء الذى يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ - مبتسمين - لتأنيب أمكما..
وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمى -بين عينيك- ماءً؟
أتنسى ردائى الملطَّخَ بالدماء..
تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
وفى دندرة سعدنا بزيارة المعبد الرومانى، تطلّعنا هناك إلى آثاربطلميوس الثالث والملكة كليوبترا وابنها قيصر وشروح الأبراج الفلكيّة التى تزدان بها الجدران.المصوّر الفنّان موسى محمود، فى حرفيّته وعمقه الفنى كان قطعة من المعبد، ذكى هو وعفوى وممتلئ بالمعبد وبتاريخه.كان سعيدا وبشوشا وأنيقا مثل قيصر..يعانق آلة التّصوير مثلما يعانق الملكة كليوبترا، ..نظراته ثاقبة، دقيقة شبيهة بذهول نظرات يوسف شاهين وتصميمها.
فى شوارع دندرة تسير الحياة بسيطة، لا ضجيج ولا وجع رأس.يستقبلك الأطفال بعفويّة مميّزة ويعلنون من خلال ابتساماتهم أنّ الإنسان أصله طيّب، فقط هم الحكّام الذين استبدّوا وقهروا الفقراء والمهمّشين.الأطفال، آه كم أنتم تستحقّون كل الحبّ، أنتم من فجّر الثورة لن تنساكم مصر.أبدا لن تنساكم مصر.
احتفلنا بشاعر الإحساس عبد الرحيم منصور، وتغنى الحاضرون ببعض قصائده الرائعة :
يا حبيبى يا قمر يا قمر ياللى واخد ع السهر يا قمر
لك كتير مازوتنيش يعنى طال بيك السفر
يا حبيبى يا قمر
شوف كده يا أبو الحنين ياللى بيك عمرى أبتدا
بندهك ويا السنين بس مشبعتش ندا
النجوم شوقى وقلبى لك سما
والربيع قرب علينا أنما فات عليا ما حس بيا
فينك أنت يا نور عنيا
يا حبيبى يا قمر
قولى ايه ناقصك هنا الحنين ولا الهنا
قلبى ده اللى وهبتهولك مالو يحلاله الغنا
قولى ايه لو كان بعيد أنا أقربه
دى الليالى بعدك أنت تغربه
لفوا ياما تعبوا ياما أمتى تيجى بالسلامة
يا حبيبى يا قمر
هكذا غنّت الفنّانة الكبيرة فائزة أحمد ولا أحد يعرف أنّ الكلمات للشّاعر عبد الرحيم منصور.
كذلك هوّ قدر الشّاعر، أن ينسى ولكنّ جماعة الهجرة للجنوب أنصفوه أخيرا، كرّموا إبداعاته وفسحوا المجال أيضا للعشرات من الشّباب لقراءة إبداعاتهم والتواصل مع شعراء ونقاد من مصر وتونس والسودان وسوريا.
وكانت فرصة أيضا للتّواصل مع شعراء الجنوب الرائعين مثل محمود الأزهرى وأشرف البولاقى ومها جمال.
عدنا إلى القاهرة فى اليوم الأخير على متن قطار النّوم..لكنّ الأستاذ وحيد لم يكن متواجدا، ربّما صادف ذلك يوم راحته الأسبوعيّة.كنّا نحتاج إلى ابتساماته وكؤوس الشاى بالفتلة الذى لا نشربه فى تونس كثيرا..نحن نشرب الشاى الصريح، الأحمر أو الأخضر وعادة ما نتناوله بعد الأكل فى الغداء والعشاء. وطبيعى أن تكون هناك اختلافات، لكلّ شعب حضارته وعاداته وتقاليده .
فى ساحة طلعت حرب ترى حركة القاهرة فى ذروتها.حركة تجاريّة متنامية وأصوات الباعة لا تتعب.. وبإمكانك أن ترى كلّ الجنسيّات من الشمال والجنوب..يتبضّعون ويصوّرون ويستمتعون بإيقاع الشّارع المصرى الحى والممتع.
وفى ميدان التّحرير لا تنقطع السّمفونيّة، فقط تنزاح إلى إيقاع سياسى مختلف ومتناقض، بين المحافظين والحداثيين.فى هذا الميدان الفسيح كتب لمصر تاريخ جديد..الشعارات، شعارات شباب 25 يناير تملأ الجدران والواجهات وتذكّر دائما بدماء الشّهداء.لكن، هل كتب لشعوبنا بعد الثورات أن تتمزّق بسبب الاختلافات الإيديولوجيّة والفكريّة..؟ الوطن يسع الجميع، يسع كل الألوان والأطياف، فلماذا نتفتّت ونتشرذم هنا وهناك؟ ولمصلحة من يحدث ذلك؟
استدعانى شيخ لشرب قهوة أو شاى كما أريد، ناولنى أوّلا كوب ماء بارد، كنت أحتاجه بسبب الحرارة، قال لى الشيخ محمود، وقد عرفت اسمه من خلال اللّافتة الجانبيّة : استراحة محمود المصري:
- ستحيا مصر، ستحيا حرة يا ولدي..ترشّف يا ابنى، هل معك سجائر؟
هتفت وأنا أدقّّق فى ملامحه الصعيديّة الواضحة : ستحيا مصر يا عمّ محمود، وستحيا تونس، ستحيا كلّ الشّعوب العربيّة المحبّة للحريّة والكرامة.
الشيخ محمود رفض بشكل قاطع أن يتناول منى ثمن القهوة حينما عرف أنّى تونسيّ، وعانقنى طويلا، طويلا.
وقال مودّعا: ابنى مات شهيدا فى هذا الميدان الثّائر على الدوام..لذلك سأرافق روحه إلى الأبد.
فى الطّريق إلى مطار القاهرة لمحت الأستاذ وحيد، كان هوّ، بلا شكّ فى قسماته المصريّة الصريحة، ينشر ابتسامته الهادئة تلك فى حضرة النيل العظيم.تابعته بعناد إلى أن غاب فى الزّحام
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة