علمونا أننا شعب ذو طبيعة مسالمة، يكرة الثورة، وغاية أمله على مر العصور تكمن فى العيش مستقرا، ذلك لأننا شعب ذو حضارة زراعية، جبلنا منذ آلاف السنين على تقديس المركزية وحكم الفرد المسيطر، وأوحوا لنا أيضا، أنه لا استقرار بغير سطوة حاكم قوى، يقمع كل فصيل يختلف معه، حفاظا على وحدة البلاد، وأن القوة بالطبع تكمن فى الحزم والانضباط الذى يملكه الحاكم، ذو الخلفية العسكرية، وأن سر خلود الحضارة المصرية يكمن فى حكمة الصبر على الاستبداد، والتكيف معه.
هكذا كان الأمر منذ أن كنت طفلا، وهذا أيضا ما أريد له أن يقر فى وعى أطفالنا لاحقاً؛ كى ينضموا لاحقاً إلى طابور السائرين نياماً، فكم تقر عين نظام قمعى، حين يكون شعبه معداً ذهنياً للتسليم بمبدأ، أنه فقط "مفعول به" على مر العصور.
هذا هو نتاج الإطار العام الزائف وغير الموضوعى، الذى نسجته يد كتاب مناهج التاريخ فى المدارس المصرية فى الستين سنة الأخيرة تحت حكم الأيديولوجية العسكرية؛ ترسيخاً لحكم الفرد.
إنها نفس العقلية التى حاولت طمس الوعى التاريخى لجيلى، فى بدايات تكوينه ونحن أطفال ندرس فى المدارس الحكومية فى سبعينيات القرن الماضى.
فقد كانت مناهج التاريخ آنذاك، لا تحمل أى ذكر عن الرئيس محمد نجيب، كأول رئيس لمصر بعد الانقلاب العسكرى، الذى سمى فى التاريخ بثورة عام 1952، ودرسوا لنا أن الرئيس جمال عبد الناصر كان أول الرؤساء المصريين.
وبعد أن أفشى لى أبى هذا السر الخطير، المتعلق بحقيقة وجود رئيس مصرى قبل عبد الناصر واجهت مدرسة المواد الاجتماعية، متسائلا عن عدم وجود ذكر للرئيس نجيب فى المنهج، فبررت ذلك بأن أمه كانت من السودان، أما عبد الناصر فولد لأبوين مصريين!!!.
ثم قالت لى بلهجة تحذيرية: أول رئيس كان عبد الناصر، علشان الامتحان.
وأطرقت قائلة: احمد ربنا أننا فى مش فى سوريا!.
وهى نفس العقلية التى أوحت للرقيب الإعلامى، أن يحرمنى كطفل من أن أرى ولو حتى صورة لأحد حكام مصر من الأسرة العلوية، ولو مصادفة فى صحيفة من الصحف (القومية).
ويصل العبث الإعلامى إلى مرحلة الكوميديا السوداء، حينما كانوا يطمسون صورة الملك فاروق أو الملك فؤاد فى الأفلام القديمة، ببقعة سوداء، سواء كانت تلك الصور معلقة فى أقسام الشرطة فى أفلام أنور وجدى، أو خلف الموسيقار محمد عبد الوهاب، عندما غنى عاشق الروح فى فيلم غزل البنات.
أى جهد ووقت هذا الذى كانوا يبذلونه فى محاولات تضليل الوعى؟.
وهل تتخيلون معى طبيعة عمل القائم على تظليل مئات اللقطات المتتابعة بشكل يدوى دؤوب، قبل عصر الصورة الديجيتال؟.
وهل كان يؤمن بما يفعل به؟ أم كان مستسلما للواقع؟ أم كان كالأعمى الذى يقوده أعمى؟.
أسئلة كثيرة تتداعى إلى الأذهان فى رحلة البحث عن أساليب التضليل التاريخى وملامحه.
وقد أسفرت ثورة الخامس والعشرين من يناير عن خلخلة إطار الصورة الذهنية السائدة عن قوة وسطوة حاكم مصر المستبد، وبطانته المفسدة، ووقفت وما زالت تقف ضد استمرار حكم المؤسسة العسكرية لمصر.
إلا أنها كشفت فى الوقت ذاته عن أمراض الهوية المزمنة، الضاربة بجذورها فى أعماق وعى الفرد والمجتمع، والتى استفحلت أعراضها التى نشهدها، متمثلة فى الخلافات والصراعات الأيدولوجية والمذهبية بين القوى السياسية، والتى تعدت رفض الآخر فى مجتمع تعددى، وصولا إلى الاتهامات المتبادلة بالعمالة والتخوين.
فهل من الممكن أن نؤسس لنهضة علمية وتكنولوجية، يساهم فيها الإنسان المصرى، وهو يحمل وعيا منغلقاً عن الآخر فى الداخل والخارج، ويعيش فى مجتمع لا يقيم لتراثه الإنسانى الفريد وزنا، تماما كما كان الحال قبل الثورة؟.
وهل يمكن أن نهتم ببناء الإنسان المصرى، دون أن نقدم له صورة موضوعية واضحة عن هويته الوسطية الفريدة الممتدة عبر آلاف السنين؟.
إن نجاح النهضة الشاملة التى نحلم بها يحتاج خطة استراتيجية طويلة المدى، لإعادة بناء وعى الإنسان المصرى بهويته، وحجمه الإنسانى والحضارى دون تفريط أو إفراط.
يتطلب ذلك معالجة الأفكار النمطية السائدة، والمفاهيم الخاطئة، عن جذور هويته وحضارته؛ كى يتمكن من تفعيل آليات الوصول للقوة الحضارية الناعمة، التى تعيد مصر إلى دورها القدرى الرائد فى التاريخ.
فعندما تتفاقم حالة أحد الضروس، الذى لا يمكن خلعه لعمق جذوره، ويصبح الألم مزمنا ولا يطاق، فلن يفلح معه علاج سطحى، أو حشو، أو أى تدخل جراحى قبل البدء بعلاج الجذور، والذى يتطلب دقة وصبراً، واستخدام أدوات طبية متقدمة.
وأولى خطوات علاج جذور الهوية، هو البدء بتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الحضارة المصرية القديمة.
ولعل القارئ يتساءل: لماذا لا أصف حضارتنا العريقة، حتى ولو سهواً بالحضارة الفرعونية؟.
إجابة هذا السؤال، هى بداية مرحلة علاج الجذور.
وللحديث بقية.
محمد جاد الله يكتب: الثورة تكشف أمراض الهوية المزمنة
الخميس، 26 أبريل 2012 07:06 م
صورة ارشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود المصرى
روعة........
مقال ممتاذ وواقعى
عدد الردود 0
بواسطة:
عادل حسن
أخيرا
عدد الردود 0
بواسطة:
ريهام سعيد
مصر بخير
عدد الردود 0
بواسطة:
ناصر
مصر فرعونية قبطية اسلامية
عدد الردود 0
بواسطة:
أزهار أحمد عبد الفتاح محمود
مصريتنا ... هويتنا