فى أعقاب ثورة ٢٥ يناير، وبعد ما يقرب من ستين عاماً على تأسيس النظام الجمهورى فى مصر، دأبت العديد من الأصوات على ترديد مقولة "لا نريد فرعوناً جديداً" كمقدمة للمطالبة بنظام برلمانى وليس رئاسياً، وتبدو هذه الدعوة فى تلك اللحظة التاريخية مبررة، بعد أن عانى المصريون مساوئ حكم الفرد على مدى عقود الجمهورية الأولى، ومع ما فى هذه الدعوة من منطق مفهوم، إلا أن النظر إلى تجربة الجمهورية من ١٩٥٤: ٢٠١١ على أنها نظام رئاسى حقيقى هو خطأ ومغالطة كبرى، فلم تكن الرئاسات الثلاث إلا إعادة إنتاج لنموذج حكم فردى قروسطى، وإن حاولوا الظهور بمظهر الحداثة و"الديمقراطية" بدرجات متفاوتة فى عهود الرؤساء الثلاثة.
مرة أخرى، بالرغم مما فى هذا التوجه للنظام البرلمانى من وجاهة ظاهرية، على الأقل على المستوى الشعورى، إلا أننا إذا ناقشناه بمزيد من العقلانية سيبدو حلا محفوفاً بالمخاطر، فهو يطرح - فى ظروفنا الحالية- شكلاً من الأنظمة ذات السلطات المتوازية دون قيادة حقيقية، وهو الأمر الذى يبدو غير مستبعد، خاصة مع عدم صياغة دستور للبلاد حتى الآن، تتحدد فيه سلطات الدولة وعلاقتها معاً، والأهم دون تحديد موقع وصلاحيات رئيس الجمهورية.
مكمن الخطر فى هذا الطرح -الجمهورية البرلمانية أو شبه البرلمانية- يتحدد فى عدة نقاط أولها: إن رئيس الحكومة يكون هو أعلى سلطة تنفيذية هو وحكومته، ويتم اختياره فعلياً من البرلمان وليس بالانتخاب الشعبى المباشر، لأنه وفقاً للنظام البرلمانى ربما يحصل حزب على أعلى الأصوات ولا يشكل الحكومة، بل من خلال تحالفات برلمانية يمكن أن يشكل الحكومة من حصل على أصوات أقل – وهو الأمر الوارد حدوثه - ومن ثم بالنسبة للديمقراطيات الناشئة يكون مدخلاً لاختيار يخالف الاختيار الشعبى، مثلما حدث فى الانتخابات العراقية الأخيرة عندما حصل إياد علاوى على أعلى الأصوات ولكن المالكى هو الذى شكل الحكومة، وبذلك يكون اختيار رئيس الحكومة- أعلى سلطة تنفيذية- ليس من الشعب، بل من خلال وسيط هو البرلمان، وأعتقد أن الشعب المصرى بعد عقود طويلة من حرمانه من حقه فى اختيار قيادته لا يناسبه أن يكون هناك وسيط ربما يتدخل فى اختياره للقيادة.
أما رئيس الجمهورية - المحدود الصلاحيات – هو أيضاً يتم اختياره بآلية مشابهة، وهو يكون اختياراً توافقياً لمنصب شبه شرفى.
ثانياً: إن النظام البرلمانى- أو ما يشبهه- فى الحالة المصرية سينتهى إلى تكريس تيار سياسى بعينه ومكِنه من الاستئثار بالسلطة لفترة قادمة غير قليلة، وأعنى هنا، تحديداً التيار السياسى المتأسلم، وربما يغريه هذا الاستئثار إلى العودة لمشروعه القديم- الذى هو بالضرورة فى حالة تناقض بنيوى مع الديمقراطية- ربما يغريه هذا بالانقلاب على الديمقراطية بعد أن صعد من خلالها إلى السلطة.
ثالثاً: أنه لن يصبح معنى حقيقيا لتحديد فترة الرئاسة، لأن منصب الرئيس ذاته لن يكون له ثقلاً هاماً فى المعادلة السياسية، وبالتالى فإن تغييره لن يكون تداولا للسلطة، بينما يمنح النظام البرلمانى رئيس الحكومة مدداً غير محددة.
وفى ممارسة ديمقراطية جديدة قد تستمر أحزاب بعينها كأكثرية لفترات طويلة خاصة إذا كانت التجربة الناشئة غير محصنة بنصوص دستورية تضعها على المسار الصحيح.
رابعاً: وهو الأمر الأكثر خطورة، أنه بعد طرح ما يمكن أن ينتج عن النظام البرلمانى من سيناريوهات ؛ سواء باستئثار تيار معين أو خلق جزر منفصلة من مرتكزات القوة، وما يعنيه هذا من المراوحة بين الجمود والصراع، وفى كلا الحالين لن يكون هذا محققاً لهدف الديمقراطية بحال، بل سيقود البلاد إلى حالة من عدم الاستقرار وربما الفوضى، وتجربة مصر مع النظام البرلمانى ما قبل ٥٢ ترجح هذا الاحتمال.
الآن ونحن بصدد تشكيل لجنة تأسيسية جديدة لصياغة الدستور وكذلك على أعتاب الاستحقاق الرئاسى؛ على القوى الديمقراطية وكل المصريين أن يتنبهوا إلى أن تلك الدعوة البراقة للجمهورية البرلمانية هى الهدف المنشود لأكثر من لاعب على الساحة السياسية، والذين ربما من مصلحتهم عدم وجود رئيس فعلى للبلاد، كى يظل عامل توازنات القوى حاسماً فى حكم هذا البلد، بدلاً من التحول السلس والحقيقى لدولة ديمقراطية حديثة، مازالت أمامنا فرصة لتحقيق هذا الأمل... ولكنها ربما تكون الفرصة الأخيرة.
د. نوران الجزيرى تكتب : الجمهورية البرلمانية.. الخطر القادم
الثلاثاء، 24 أبريل 2012 12:08 ص
مجلس الشعب