محمد جادالله يكتب: حكاية أول اعتصام سجله التاريخ الإنسانى

السبت، 21 أبريل 2012 07:02 م
محمد جادالله يكتب: حكاية أول اعتصام سجله التاريخ الإنسانى صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى ظل الأزمات السياسية والاجتماعية التى تمر بها مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، تعالت أصوات تنادى بتجريم التظاهرات والاعتصامات الفئوية للعمال والموظفين، المطالبين بحقوقهم المشروعة.

وسواء كانت تلك الأزمات نتاجاً طبيعيا للفساد الذى استشرى فى عهد ما قبل الثورة، أو كانت مصطنعة ومخططة لتعميق الشعور بالفوضى والتفكك، فإن الحجر والتعالى الحكومى على مطالبة المواطن المصرى بحقوقه، إضافة إلى الامتعاض الشعبى، لا سند له فى أى مرجعية دستورية كانت، أو دينية أو أخلاقية.

وكمصريين لا يجب أن نبحث بعيدا، كى نتعرف على جذور مشروعية التظاهر والاعتصام للمطالبة بالحقوق الاجتماعية فى التاريخ الإنسانى، فالأحرى بنا أن ننظر بتمعن فى تراث حضارتنا القديمة، التى قامت على النظام والعدالة الاجتماعية المكفولة للجميع، ونتعلم لبناء المستقبل من أقدم التجارب الإنسانية المسجلة فى التاريخ، بيد أجدادنا، بناة التحضر.

فكما كان لحضارة مصر القديمة السبق عالميا وتاريخيا، فى التقدم العلمى ونظم الإدارة والتنمية المجتمعية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، فقد تفرد العمال والفنانون المصريون أيضا بتنظيم أقدم تظاهرات واعتصامات، أدت إلى أول إضراب عمالى سجله التاريخ الإنسانى قبل 3200 عاماُ.

كان ذلك فى عصر الدولة الحديثة ( 1570 - 1070 قبل الميلاد)، حيث عاش مجتمع من العمال والبنائين والفنانين المهرة لمدة تزيد عن 400 عام، مع أسرهم فى مدينة صغيرة متكاملة الخدمات بالقرب من مواقع عملهم، تقع على الضفة الغربية للنيل قبالة مدينة الأقصرالحالية، التى كانت عاصمة مصر آنذاك.

وكان هؤلاء هم المحترفين الذين نقروا وزينوا بيوت الحياة الأبدية لملوك مصر فى العالم الآخر، والمعروفة بمقابر وادى الملوك غرب مدينة الأقصر، والتى تعتبر من أهم مواقع التراث الإنسانى قاطبة.

وقد درجت تسمية مدينة العمال تلك "بدير المدينة "، لأن بعض الرهبان قد سكنوا أطلال معبد المدينة فى العصر القبطى.

بدأت الاحتجاجات اعتراضاً على عجز الحكومة عن توفير مستحقات العمال وحصصهم فى الغذاء التى كانت تصرف من مخازن الغلال، فتقدموا بشكواهم إلى الكاتب الموظف المختص بهذا الأمر، والذى رفع الأمر بدوره للوزير المسئول، مخبرا إياه بعدم صرف مستحقات العمال لمدة تقترب من الشهر، فأرسل لهم الحاكم كمية من القمح لم تكف لتهدئة حالة التوتر والغضب بينهم، فلم يجد العمال سبيلاً للحصول على حقوقهم إلا بالتظاهر احتجاجاً أمام المعابد الجنائزية للملوك..

ولما لم تسفر وعود الكهنة من المحاسبين فى المعابد عن تأمين الغذاء لهم ولأسرهم، خاطب رئيس الشرطة العمال ناصحا إياهم بأخذ أدوات عملهم، وإغلاق منازلهم، واصطحاب أطفالهم ونسائهم، وتنظيم مسيرة سيكون على رأسها بنفسه إلى المعبد الذى توجد فيه مخازن الغلال، وسيعتصم معهم أمامه، دفاعا عن الحق والعدالة.

نحن هنا أمام دعوة للاعتصام من أجل الحق المشروع، دعا إليه وكان على رأسه رئيس الشرطة، الذى يعادل منصبه الآن مناصب مأمور قسم الشرطة، ورئيس المباحث، ومفتش الداخلية مجتمعين.

وقد نجح الاعتصام الذى شارك فيه رئيس الشرطة، فى إجبار الكهنة من المحاسبين المسئولين فى المعبد على تسليم العمال وأسرهم حقوقهم ممثلة فى حصص كافية من الغذاء.
وبالطبع لم يراجع رئيس الشرطة "ممثل النظام"، رؤساءه فى قراره، فمن كان يستطيع منهم الجور على الحق فى دولة تقدس العدالة؟

وهدأ الأمر لفترة، ثم تجدد الإضراب فى شكل اعتصام جلوسا فى موقع عملهم بوادى الملوك، وتعالى صياح أحد العمال يدعى " مس عا نخت" منتقدا الملك، ومتطاولا عليه، فعاقبته السلطات بالضرب لتطاوله على الذات الملكية.

ويتسع الإضراب تدريجيا بعد هذه الواقعة، لينبئ عن تذمر شامل ليس فقط بسبب نقص الغذاء وتأخر الرواتب، وإنما لأسباب تتعلق بفساد وشرور ألمت بالمجتمع آنذاك.

وبعد فترات من الشد والجذب بين العمال المضربين والإدارة الحكومية ولم يتخلوا فيها عن موقفهم وحقوقهم، تم إمدادهم بما يلزمهم.

حدث ذلك الإضراب فى العام التاسع والعشرين من حكم الملك رمسيس الثالث، الذى يشهد له التاريخ بأنه من أواخر ملوك مصر العظماء، الذى عمل على تأمين حدود مصر، وبخاصة من جهة الشمال، حيث حقق انتصارات مبهرة على شعوب البحر المتوسط، الذين هاجموا مصر بقواتهم البرية والبحرية، ولم يكن فى عصر من عصور الفوضى، التى يمكن أن يحدث فيها أى شئ دون رقيب.

وعلى الرغم من ذلك قفد كانت تلك الحركات الاحتجاجية والاعتصامات، مقدمات لفقد الحكومة المركزية للدولة المصرية لقوتها وهيبتها، وكان لها فى رأيى أثرا يعادل فى تاريخنا الحديث ما أدت إليه الاحتجاجات العمالية الواسعة التى اندلعت فى مدينة المحلة الكبرى عام 2006.

خلدت قصة أقدم إضراب واعتصام فى التاريخ وثيقة حكومية على لفافة من ورق البردى، يزيد طولها عن 90 سم، دونها الكاتب الملكى "نفر حتب" المختص بمتابعة تسليم مستحقات العمال آنذاك، وتعرض فى متحف مدينة تورينو الإيطالية، تحت رقم 1880p.

الحكاية تثبت أن عمال وفنانى مصر القديمة، لم يكونوا عبيدا يساقوا بالسياط، كما روجت السينما الأمريكية لعقود طويلة، فالاستعباد والاستبداد، وهضم الحقوق والعمل فى جو مشحون بالظلم، لا يمكن أن ينتج كل معالم الدقة والإبداع والإتقان، التى تقع عليها عيوننا حينما نتأمل أى تفصيلة دقيقة خلفتها الحضارة المصرية القديمة.

ولن أنسى زيارة لمقابر رؤساء العمال فى دير المدينة منذ سنوات، كنت أصطحب فيها أمير مقاطعة أوجسبورج الألمانية وعائلته، والذى يشتهر جدوده من النبلاء فى تاريخ أوربا، بأنهم دافعوا عن حقوق العمال، وفعلوا الكثير من أجل تحسين أحوالهم.

فبعد أن انتهينا من الزيارة، انهمرت دموع زوجته الأميرة والناشطة الاجتماعية، التى تهب وقتها وتسخر إمكانات ونفوذ عائلتها للدفاع عن حقوق العمال فى ألمانيا.

وعندما نظرت متسائلاً قال لى زوجها بعيون تملأها الدموع:

إنها طاقة حب الحق والإنسانية والعدالة التى تكافح عائلتى من أجلها عبر القرون.

الآن وهنا أدركنا أننا نحمل سمات التحضر الإنسانى التى حملها أجدادك.

هنا تعرفنا على من كافحوا فى سبيل الحقوق وهم عمال بسطاء، وليسوا من النبلاء ذوى النفوذ.

الحق لا يحتاج النبلاء وسطاء للحصول عليه..
أجدادك أثبتوا ذلك قبل 3200 عام..

العيش والحرية والعدالة الاجتماعية هم أساس الإبداع وبناء الحضارة.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة