تعيد ذكريات الربيع العربى إلى أذهاننا قضية تمكين المسلمين المستضعفين فى الأرض، فالأرض لله يورثها عباده الصالحين، وإذا نظرنا إلى الدول التى قامت فيها تلك الثورات قبل عام من الآن لما وجدنا فيها ما نجده الآن من مساعٍ قوية نحو دساتير إسلامية تحكم تلك البلاد، ومجالس شعبية وشورية إسلامية تدير دفتها وتأخذ بناصيتها نحو دين الله تعالى الذى كان مضطهدًا، لا تمارس شعائره خارج أبواب المساجد، هذا إن مورست أصلاً .
وفى القرآن العبرة (ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا).
إذا ذكر التمكين فى الأرض وآدابه عبر التاريخ ذُكر بجانبه ذو القرنين، ذلك الفاتح المسلم العظيم الذى فتح الدنيا بحذافيرها، ومع ذلك لم ينس فضل الله تعالى عليه، وأنه هو وحده المعين له على صنيعه ذلك، فذو القرنين ملحمة إيمانية كبرى تصب فى نفوس المؤمنين روح التوكل على الله تعالى، والاعتماد عليه فى تسخير الأرض، وهو نموذج فريد للإمام العادل الذى لم يورثه ملكُه تكبرًا وغرورًا وتجبرًا فى الأرض، وإنما زاده تواضعًا وتضحية فى سبيل نشر العدل والرحمة بين الخلق جميعًا.
ومن هنا كان لابد أن نتعرف على شخصية هذا الملهم العظيم، لقد جمع ذو القرنين بين العدالة والرحمة والإيمان وبين العلم والتقنية الحديثة؛ يظهر ذلك جليًّا خلال تعاطيه مع قضية سد يأجوج ومأجوج، وكيف عالج الأمر، واستخدم العلوم الحديثة للقضاء على هذا الفساد والإفساد فى الأرض، وهذا النموذج هو النموذج الراقى الذى ينبغى على عموم الأمة أن تعيه فى إعادة الحياة إلى الدول التى سيطر عليها الفساد عقودًا طويلة، فدولة الإيمان والعلم التى سيطرت على حياتنا- نحن المسلمين- على مدار أربعة عشر قرنًا ينبغى أن يبزغ نجمها، وتبعث من رقادها من جديد، لتضع النموذج الأكمل الذى يحتذى به العالم من حولها، كما سبق أن كانت فى العصور المظلمة، التى ساد فيها الجهل والظلم أرجاء أوروبا التى انتفعت بعلومنا واستطاعت تحقيق المعادلة الصعبة التى لم تفقهها كثير من الدول فى عالمنا العربى والإسلامى.
لقد تمكنت أوروبا من فهم طبيعة الحاكم العادل، ووضعت الضوابط والقيود التى استمدتها فى الأساس من الإسلام العظيم، حتى رسَّخت العدالة- ولو شكليًّا- فى بلادها وأرست دعائمها، ولكن لأنها نحّت دين الله تعالى الحق جانبًا نزل منحناها إلى أسفل حتى أوشكت على (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا) السقوط فى بئر عميقة من الأخلاق الرذيلة التى بدأت تأكل حضارتها أخضرها ويابسها.
أما نحن فقد بعدنا بمفازات بعيدة عن قيم الإسلام أفرأيت من اتخذ إلهه هواه لأننا لم نفقه- حاكمين ومحكومين- سنة التمكين فى الأرض على أساس كونها مسؤولية نُسأل عنها أمام ربنا فى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
قدمه القرآن على أنه علامة بارزة فى طريق من يحكم بالعدل، إن ذا القرنين علامة بارزة من علاماتٍ وضعها القرآن فى طريق الحكام؛ ليدركوا طبيعة الحكم وحقوق المحكومين، وكيفية التعامل مع الظالمين فى المجتمع والمحسنين وطبيعة الصراع بينهم، وضرورة رد الأمر فى إنجازات الحكام إلى الله وحده، مع الإيمان الكامل بسطوة الله تعالى على هذا الكون..
لم يستغل منصبه
عندما فتح الله لذى القرنين البلاد، وتمكّن من التصرف فى أهلها، لم يستغل منصبه لأكل أموال الناس فى تلك البلاد عندما تمكّن منهم، ولم يستغل قومه وتمكنه من التصرف فيهم وظلمهم، فعندما فوّض الله له التصرف فى البلاد المفتوحة والتعامل مع القوم المغلوبين، لم يظلم ولم يطغَ ولم يتجبر، ولم يعتبرها مناسبة للبطش والبغى والفساد. لكنه وضع ورسم دستورًا ومنهجًا فى التعامل مع أولئك القوم، وضع منهجًا لكل من أعطاه الله شيئًا من التمكين، وشيئًا من التصرف فى عباد الله، وهو (أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَـالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً).
أصبح منهجاً يحتذى به فى الحكم
هنا وقفة عظيمة ودرس كبير، لابد أن نقفها مع قصة ذى القرنين، بل منهج عظيم رسمه ذو القرنين لمن بعده، وقد أُعطى شيئًا من التمكين، يقول الله تعالى عن ذى القرنين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرْضِ وَآتَيْنَـاهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً) [الكهف:84، 85]. فقد أعطى هذا الرجل أسباب الحكم والفتح، وأسباب البناء، والعمران، وأسباب المتاع والسلطان، فهذا الرجل كما يقول ابن كثير: "يسَّر الله له الأسباب، أى الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرسَاتِيق والبلاد والأراضى.
هذا التمكين فى الأرض مطلب يبحث عنه السادة والزعماء، ويظل يلهث فى بيداء سرابه المغرمون بالكراسى، فتنقطع أنفاس الكثيرين منهم دون أن يحققوه؛ لأنه منحة إلهية ذات مواصفات وشروط معينة لا يهبها الله إلا من شاء من خلقه. وغاية ما يمكن أن يحققه الكثير منهم رغد العيش له ولمن حوله، والاستمتاع بشهوات الدنيا فترة من الزمن، وربما فاجأته الأقدار فتكدر صفو العيش، وتحولت المسرات إلى أحزان، واقتيد الملوك الأباطرة، وأصبحوا فى عداد العبيد المأسورين، وتضاءل الملك العريض من حوله.
حاكم عادل وعالم عامل
لقد جمع ذو القرنين بين شخصية الحاكم العادل والعالم العامل، إلى جانب ورعه وتقواه، وخوفه من الله؛ سار بجيشه إلى مشارق الأرض ومغاربها فلم يتعدَّوْا على أحد، ولم يظلموا أحداً، ولم يأكلوا مال أحد؛ همُّهم نشر العدل فى الناس، ورفع الظلم والحيف عنهم. لقد نزل ذو القرنين إلى مستوى الشعب، والتصق بهم عن قرب، وشعر أنه واحد منهم، فلم يستعل عليهم، ولم يجلس فى أبراجه ينظر إليهم. لقد ساس الناس بسياسة حازمة عادلة تسوسهم بشرع الله الممكَّن فى الأرض ينبغى أن لا يكتفى بما أخذ، عليه أن يعطى عطاءً بقدر عطاء الله له، إن عطاءك للناس يجب أن يكون على قدر ما أعطاك الله، فعلى المُمَكن فى الأرض، أن ينصر الحق، وأن يقاوم الباطل، وأن يعمل بتعاليم من هو أحكم منه، وهو الله -عز وجل-، وما دامت هذه الأسباب من الله، فلا بد من أن تكون فى خدمة الغاية التى أُعطيت من أجلها.
وفى النهاية إنها الحقيقة الواحدة
سل من شئت ممن تصدر للترشح الآن فى مصر، أين هو من هذا النموذج الفريد الذى ضربه الله للإنسانية جمعاء فى أصول تولى الحكم. إن فى القصة عبرة وعظة لمن أراد أن ينجو بنفسه من مغبة حكم طال لهثه وراءه، ألا فلينتبه العقلاء والواعون.
فالتمكين إن نقَّبت عنه فى القرآن سترى أنه فى كل مرة وردت لفظة التمكين تنسب إلى الله رب العالمين، وهذه القاعدة البلاغية تؤصِّل فى القلوب قاعدة إيمانية، فالذى يُمَكِّن للدول والأمم والشعوب هو الله، فيجب علينا جميعًا أن نعلِّق قلوبنا بالملك الذى يفعل كل شىء، مع الأخذ بالأسباب، فهذا من حقيقة التوكل على الله. لا تسود أمة إلا بإذن الله، ولا تزول أمة إلا بإذن الله. قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِير).
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد مدين
اقراوا يامن تكالبتم على السلطه
عدد الردود 0
بواسطة:
medo shabana
وذكر فان الذكري تنفع المؤمنين
عدد الردود 0
بواسطة:
مجرد رأي
ربما يكون تصحيح مفاهيم (بس الكلام رائع)
عدد الردود 0
بواسطة:
شريف طنطاوي
حقــــــــــــًا التمكين منحة إلهية
عدد الردود 0
بواسطة:
نجوى الجوابي
ان للحق رجال صدقوا الله تعالى
لكل زمان رجال ولكل فارس جواد