معهد كارينجنى: الصيغة التركية تثير إعجاب الإسلاميين فى مصر وتونس والمغرب وسوريا.. ولا يتوقع حدوث تحوّل مماثل فى إحكام السيطرة المدنية على الدولة لسيطرة الجيوش على الحياة السياسية

الجمعة، 30 مارس 2012 04:35 م
معهد كارينجنى: الصيغة التركية تثير إعجاب الإسلاميين فى مصر وتونس والمغرب وسوريا.. ولا يتوقع حدوث تحوّل مماثل فى إحكام السيطرة المدنية على الدولة لسيطرة الجيوش على الحياة السياسية أردوغان
كتب إسماعيل رفعت

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تناول مركز كارينجى للسلام الدولى فى نشرة الإصلاح العربى "صدى" الدورية، التى يصدرها المركز أسبوعياً، مادة تحليلية بعنوان "إعادة النظر فى دور تركيا الإقليمى"، قال فيها: غالباً ما توصَف تركيا بأنها مصدر إلهام لباقى بلدان الشرق الأوسط، وهى تقبل هذا التوصيف وتَنتَهِجُه.

وأوضح أن صانعى السياسات التركية بذلوا جهوداً دؤوبةً فى الأعوام الأخيرة لإقامة "تركيا إنكوربوريتد"، وهو نموذج قوامه بلد ذو أكثرية مسلمة، ينعم بحرية نسبية واستقرار، ويزداد ازدهاراً، كما يتمتّع بنفوذ واسع فى مجالى الاقتصاد والسياسة الخارجية، متسائلا: ما الذى تمثّله التجربة التركية عمليًّا بالنسبة إلى الشرق الأوسط العربى؟ وإلى أى درجة يمكن أن تكون "تركيا إنكوربوريتد" مقنعة، وهل يمكن محاكاتها فعلاً؟

وأضاف كارينجى: لعل صعود حزب العدالة والتنمية التركى بحرية ونزاهة إلى السلطة قد حاز على الاهتمام الأكبر، حيث رأت فيه الحركات الإسلامية، فى مصر وتونس والمغرب وسوريا، رمزاً للديمقراطية الأكثرية المسلمة، حتى أنها استوحت منه أسماء أحزابها وتيّاراتها وفصائلها، وكذلك برامجها الانتخابية، وفى نظر المراقبين المحليين والدوليين، ربما يشكّل ذلك مؤشّراً على أنَّ الأحزاب الإسلامية فى البلدان الأخرى لن تسعى إلى تفكيك الإطار العلمانى لدولها، على الأقل فى الوقت الراهن، وذلك على غرار حزب العدالة والتنمية فى تركيا.

وتابع: لكن على الرغم من أن الصيغة التركية تثير إعجاب الإسلاميين التقليديين، وكذلك "ما بعد الإسلاميين"- أى أولئك الذين يوفّقون فى شكل كامل بين التزاماتهم السياسية- الدينية وبين العولمة- إلا أنها قد لا تكون قابلة للاستنساخ. فقد شهدت العلاقات المدنية- العسكرية فى تركيا تحوّلاً مزدوجاً فى العقود الأخيرة. وكنتيجة للحملات المتقطّعة التى شنّها الجيش، كان على التيارات الإسلامية السياسية أن تعتدل فى مطالبها وممارساتها؛ وفى الوقت عينه، فإن الجيش- المعتاد على الثكنات، والذى يدرك أن التدخّل فى الحكم يلحق الأذى بمكانة تركيا الدولية- اعتمد أكثر فأكثر على حلفائه المدنيين لتطبيق أجندته حيال حزب العدالة والتنمية. وفى نهاية المطاف، تخلّى الجيش عن السيطرة على المؤسّسات الأساسية "مثل مجلس الأمن القومى"، والمواجهة الأخيرة التى خاضها للسيطرة على الرئاسة فى العام 2007 لم تكن بواسطة الرصاص والدبابات، بل عبر التجمّعات العامة، والبيانات عبر الإنترنت، والدعاوى فى المحاكم. وبالتالى، لا يمكن الجزم أبداً بحتمية حدوث تحوّل مماثل يقود إلى إحكام السيطرة المدنية على الدولة فى بلدان لا تزال تمرّ فى مراحل انتقالية، حيث تستمرّ الجيوش الوطنية فى ممارسة حضورٍ طاغٍ فى الحياة السياسية.

ويستكمل التقرير: كذلك، تفتقر بلدان أخرى فى المنطقة إلى المسار الذى سلكته التنمية الاقتصادية فى تركيا، ولاسيما الصعود المطّرد الذى شهدته الطبقة الوسطى بتحفيز من زيادة مستوى الصادرات، والذى اختبرته الدوائر الدينية فى أطراف الأناضول- الأمر الذى عزّز اعتدال حزب العدالة والتنمية، ونجاحه السياسى وحضوره فى مختلف أقاليم البلاد. وبالفعل، فإنَّ المسار الاقتصادى الحالى لتركيا مكوِّن أساسى فى جاذبيتها فى العالم العربى.

واستطرد: فخلال العقد المنصرم، تضاعف الناتج المحلى الإجمالى التركى ثلاث مرات- باستثناء تسجيل نمو حقيقى سلبى بلغ 4 فى المئة فى العام 2009- وقد نجحت تركيا فى تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية باتّزان نسبى. واعتبر المعلّقون أن تركيا قد تكون جزءاً من فئة ثانية من القوى الاقتصادية الصاعدة (إلى جانب كوريا الجنوبية والمكسيك وإندونيسيا) فى أعقاب الأربعة الكبار (البرازيل وروسيا والهند والصين). يقودنا ذلك إلى استخلاص أمرَين: على مستوى رمزى، أسقطت التجربة التركية (والإندونيسية والماليزية) إلى حد كبير النظريات التى تعتبر أن الإسلام لا يتوافق مع التحديث، ولاسيما فى مجال الإدارة الاقتصادية.

وعلى صعيد ملموس أكثر، نشطت تركيا خلال العقد الماضى فى السعى إلى بناء شراكات، من أجل تحقيق نمو مستدام تحفّزه التجارة، فى منطقة لطالما كانت تحت تأثير الخليط المشوِّش من الثروة النفطية، والنقص المزمن والشديد فى التنمية. وعلى الرغم من أن الديمقراطية فى الحكم لم تُؤخَذ قط فى عين الاعتبار لدى بناء هذه الشراكات الاقتصادية- وخير دليل على ذلك الروابط الحميمة التى كانت تقيمها تركيا مع قادة سلطويين- إلا أنه كانت لهذه الشراكات نتائج غير مقصودة وذات تداعيات إيجابية على مستوى الإصلاح السياسى. فعلى سبيل المثال، ربما أدّى تدفّق السلع التركية الأرخص ثمناً والأفضل نوعية إلى الأسواق السورية، إلى تقويض ركيزة أساسية فى نظام الأسد تتمثّل فى أزلامه فى عالم الأعمال.

وأشار إلى أنه من أجل فهم أبعاد الدور التركى فى المنطقة، يتعيّن علينا أيضاً الإقرار بالحساسيات التى يتسبّب بها الإرث العثمانى؛ حيث يعتقد البعض أن أنقرة تسعى إلى استعادة قيادتها التاريخية للشرق الأوسط والقوقاز والبلقان، الأمر الذى من شأنه أن يثير حفيظة محاوريها. ومن هنا إحجام صانعى السياسات الخارجية الأتراك عن استخدام أُطُر مرجعية عثمانية. لكن على المستوى الاجتماعى المحلى، يتقبّل الأتراك بصورة متزايدة توصيفهم لأنفسهم بأنهم الورثة الحميدون للإمبراطورية العثمانية. هذا واضح فى انتشار السلع الثقافية التى تستخدم المضمون العثمانى، مثل الفيلم الذى حطّم الأرقام القياسية، "غزو 1453"، والذى يدور حول الأحداث التى يسمّيها التأريخ الغربى "سقوط" القسطنطينية.

فى هذا الفيلم، يُصوَّر محمد الغازى- الذى يؤدّى دوره ممثّل يشبه بطريقة لافتة رجب طيب أردوغان عندما كان شاباً- بأنه حامٍ قوى ورؤوف للمسلمين والمسيحيين على السواء (مع العلم بأنه ليس هناك أى ذكر لليهود). أمّا صورة تركيا التى تظهر من خلالها فى موقع "الشقيق الأكبر" للمسلمين المسحوقين فى أماكن مثل فلسطين وناغورنو-كاراباخ والبوسنة، فهى تندرج فى إطار صورة وطنية "نيو عثمانية" صاعدة يبدو أنها تحرّك التطلّعات التركية إلى قيادة المنطقة داخل البلاد، وتضخّم صورة أردوغان فى الخارج. لكننا لا نعرف بعد إذا كانت هذه المسألة غطرسة أم قدرة فعلية.

أمّا العنصر الأخير الذى يؤدّى دوراً أساسياً فى تقويم المثل التركى، فهو أنه لا يزال على البلاد أن تطوّر إطار عمل مُجدٍ للتعايش بين الإثنيات والمذاهب. واقع الأمر أنَّ العنف المتصاعد من جانب المقاتلين الأكراد وتعامل الدولة معه بقبضة حديدية، يغذّى العداوات بين المواطنين العاديين، حيث تُظهِر قرارات المحاكم الأخيرة أن الترهيب الذى يمارسه مدنيون ينصّبون أنفسهم حماةً للأمن بحقّ الأرمن والعلويين، هو أمر مسموح وينجو مرتكبه من العقاب.

كما أن هناك أعداداً مثيرة للقلق من صحفيين وباحثين وطلاب، يُزَجّون فى السجون على خلفية تعبيرهم عن آراء انتقادية. ويبدى الذين يتبنّون نمط عيش علمانياً، مخاوف عميقة من أن تؤدّى الإصلاحات الأخيرة فى قطاعات، مثل التعليم، إلى مجتمع مكبَّل أكثر بالقيود. ونظراً إلى حاجة حزب العدالة والتنمية التركى إلى ترتيب البيت الداخلى، وبما أنه من المرجّح أن تحتدم التشنّجات بين المذاهب المختلفة فى المنطقة قبل أن تتراجع وتيرتها لاحقاً، ينبغى على حزب العدالة والتنمية أن يتعامل بجدّية كبيرة مع التفويض الموكَّل إليه بكتابة دستور جديد وشامل. وعلى المدى الأبعد، يتعيّن على تركيا أن تواجه التحدّى الدائم فى المنطقة، ألا وهو تعلّم العيش معاً، على الرغم من الاختلافات، وتركيا نفسها ليست بمنأى عن هذا التحدّى.

وقال: نهاية المطاف، يحتاج تصدير نموذج "تركيا إنكوربوريتد" إلى ظروف مستقلّة وقابلة للتوقّع، توفّر مناخاً ملائماً لازدهار التجارة والاستثمار؛ ومن هنا ضرورة الالتزام بسياسة "صفر مشاكل" التى استخدمتها تركيا مع جيرانها فى أجنداتها الاقتصادية والخارجية خلال العقد المنصرم. لكن بسبب الاضطرابات التى شهدها العام الماضى، ليست هذه السياسة قابلة للاستدامة. فتركيا التى كانت تحتلّ فى السابق مكانة مناسبة للتوسّط فى حوار بين إيران وإسرائيل، يسودها الآن نفور فى علاقاتها مع البلدَين، فيما يقف هذان الخصمان الرهيبان فى مواجهة أحدهما الآخر فى ما وصفه جراهام أليسون بأنه "أزمة صواريخ كوبية بخطى بطيئة".

وإذا تحوّلت هذه المواجهة حرباً، فقد ينهار التوازن الهشّ فى العراق ويندلع نزاع مذهبى وإثنى طويل الأمد، تماماً كما أن الحرب الأهلية التى تلوح فى أفق الوضع فى سوريا قد تصل إلى لبنان. لكن حتى من دون أن يكون ثمة مواجهة إسرائيلية-إيرانية، ونزاع حاد فى العراق وسوريا، فإن المسألة الكردية فى تركيا هى مثل مادّة قابلة للاشتعال بكل ما للكلمة من معنى، وتنتظر شرارة لتشتعل، وخير دليل على ذلك الصدامات الأخيرة خلال احتفالات عيد النوروز. يشير هذا كله إلى أن تطلّعات تركيا إلى القيادة الإقليمية مرهونة تكتيكياً بمنع المواجهة الحاسمة بين إسرائيل وإيران، ومن أجل تحقيق هذه الغاية عليها استخدام كل رأسمالها الدبلوماسى الذى تراجع فى البلدَين، وذلك بالاشتراك مع الولايات المتحدة.

وتابع: قبل ظهور حزب العدالة والتنمية والصحوة العربية، كان الاعتقاد السائد أنه عندما يتعلّق الأمر بالإسلام والديمقراطية والعلمانية، يمكن الجمع فقط بين اثنين من هذه العناصر الثلاثة، إنما لا يمكن أن تلتقى كلها معاً. فضلاً عن ذلك، لطالما أثيرت شكوك حول قدرة الليبرالية السياسية والاقتصادية على تحقيق الازدهار فى بيئة ذات أكثرية مسلمة. خلاصة القول، أنه إذا استطاع مروِّجو "تركيا إنكوربوريتد" أن يبرهنوا أن الاقتصادات الليبرالية تسير جنباً إلى جنب مع الديمقراطية الليبرالية فى بلد يحكمه مسلمون أتقياء، فقد يتمكّن النموذج التركى الصاعد من أن يأتى بثماره، ويُقدِّم للمنطقة مثلاً يُحتذى به، ومناسباً فى توقيته.

وشارك فى أعداد التقرير نورا فيشر أونار أستاذة مساعدة فى العلاقات الدولية فى جامعة بهجيشهر فى إسطنبول، وزميلة كرسى رونالد د. أسموس للريادة فى السياسة فى صندوق مارشال الألمانى، وزميلة زائرة فى مركز الدراسات الدولية فى جامعة أكسفورد.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة