ليس من شك فى أن ما تتعرض له الثورة من إخفاقات هيكلية فى الاقتصاد والسياسة والأمن، وما تشهده من تصاعد لحركات الاحتجاج الفئوى، وقبل هذا وبعده غياب قدرة مصر الثورة على السير فى خط مستقيم صوب تحقيق أهدافها "الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية" ليس إلا نتيجة منطقية لمحاولات البناء قبل الهدم ومحاولات التحرير قبل التطهير، ومحاولات الترقيع بدلا عن التغيير، ولم يكن هذا ليحدث لو أن المجلس العسكرى إنحاز من البداية لمطالب الثورة وآمن بها وأدار المرحلة الانتقالية بمنطق ثورى لا إصلاحى تدريجى وضع الثورة فى مهب الريح، فالنتائج تحسمها آليات التنافس الطبيعى والتلقائى بين قوى الثورة الناشئة الضعيفة والقوة المضادة وكأن شيئا لم يكن، ولهذا جاءت انتخابات الجامعات بمعظم الرؤساء القدامى.
بخلاف ذلك اتخذت دول وسط أوربا التى كانت ذات يوم ضمن الكتلة السوفيتية منهجا ثوريا على غرار ثورات أوربا الغربية ولهذا كان شعارها التطهير قبل البناء والتعمير، ففى عام 1995 صدر القانون الألبانى القاضى بفحص جميع المرشحين لمنصب الرئيس وأعضاء البرلمان والحكومة والعاملين فى القضاء وضباط الجيش ومديرى ورؤساء التحرير فى التلفزيون والإذاعة ومديرى مؤسسات التأمين والمؤسسات المالية والبنوك الحكومية ورؤساء ومديرى الجامعات وكليات التعليم العالى، واتجهت بلغاريا وألمانيا والمجر وألمانيا وبولندا الوجهة ذاتها، وتم التطهير بدافع الخوف من استيلاء النظام القديم على الثورة وإجهاضها وإفساح المجال أمام القوى الثورية الناشئة.
وعلى الرغم من اختلاف آليات التطهير من دولة لأخرى إلا أنه يمثل تدبير إدارى يهدف إلى تقليص نفوذ رموز النظم السابقة على الثورة لإتاحة الفرصة لانطلاق النظام الجديد، والتطهير ليس بديلا عن المسئولية الجنائية للأشخاص المستهدفين، فهو تدبير عقابى يترتب عليه فقد الوظيفة العامة وعدم الأهلية لشغل وظائف معينة فضلا عن الحرمان من مباشرة الحقوق السياسية لمدد تتراوح بين خمس وعشر سنوات.
والسؤال الأساسى بموجب قانون التطهير ليس هو ما إذا كان الشخص قد شارك فى قمع حقوق الإنسان أم لا بل ما إذا كان عضوًا أو منتسبا فى جهة يفترض أنها شاركت فى قمع حقوق الإنسان، وربما لهذا السبب، تعرض قانون التطهير للانتقاد لاعتماده على فكرة الجرم الجماعى وليس الجرم الفردى" وهو ما دفع الرئيس التشيكى هافل لتعديل القانون بحيث يتم النظر موضوعيًا فى كل حالة، لإتاحة الفرصة لكل مسئول صدر ضده حكما جائرا أن يطعن أمام القضاء فالعضو لا يعد مجرما لمجرد العضوية فى أحد أجهزة النظام السابق.
وفى اعتقادى، أنه على الرغم من بعض الوجاهة فى انتقاد التطهير القائم على الذنب الجماعى إلا أن إعمال النظر يشير إلى عكس ذلك، فعضو لجنة السياسات المصرية التى كان يرأسها جمال مبارك كان يتمتع بكل المزايا لمجرد انضمامه لهذه العصابة، سواء كان عنصرا فاعلا أم غير فاعل وكانت هذه المزايا تمتد من المناصب العليا فى الجامعات والمؤسسات والبنوك ووسائل الإعلام مرورا بنهب الأراضى والعقارات والشاليهات التى كان يحصل عليها العضو بأبخس الأسعار، وانتهاء بالعضوية فى البرلمان أو الحكومة أو اللجان ذات الامتيازات الضخمة وتمكين الأبناء وتوريثهم الوظائف العليا فى الداخل والخارج متخطيا بذلك القواعد العادلة ما أحبط المصريين جميعا، وجعلهم يفقدون الإحساس بالحياة، ألا يستحق مثل هذا العضو أن يعاقب بمنطق جماعى لا فردى؟ فالعضوية المجردة تمثل أعلى درجات المؤازرة للتنظيم السياسى والتواطؤ والصمت على ما ارتكب من جرم فى حق الوطن والمواطن؟ وقد تعلمنا من الحديث القدسى الذى أمر الله فيه ملائكته بحرق قرية كانت ظالمة أن يبدأوا بالقروى الوحيد الذى كان يعبد الله، وتعجبت الملائكة قائلة يارب أنت أعلم منا بعبدك، هذا الوحيد الذى يعبدك كيف نبدأ بحرق منزله، قال لأنه رأى الظلم بعينيه وشاهده ولم يقف له بالمرصاد، وصمت وتواطأ، ولم يعمل ما يمليه عليه إيمانه وضميره من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.. فحق عليه العقاب والحرق والعذاب، وهو نفس حال عضو لجنة السياسات الذى يجب أن يشمله قرار التطهير لأنه شارك بالصمت وشارك بالتواطؤ وشارك بالمباركة والتصفيق، ولم يغير وكان بإمكانه أن يقول لا وإن لم يستطع فليترك المكان وينجو ببدنه.. وفقا لهذا التكييف تبدو حجة الرئيس هافل الذى أنكر الجرم الجماعى ضعيفة، فالتواطؤ أو التحريض بالصمت والمؤازرة هو بنص القانون جريمة يعاقب من يرتكبها.
وفى ظنى إن الهدف المترتب على التطهير يظل نبيلا ومشروعا وضروريا طالما تحقق من ورائه الصالح العام، وطالما كان القصد منه انتصار الثورة وبلوغها أهدافها لتحقيق الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وطالما كان الوصول إلى هذه الأهداف لا يتم إلا بهذه التدابير التطهيرية، وحسب القاعدة الفقهية الأصيلة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، إن بقاء رموز النظام السابق ولجنة سياساته ورجال أعماله أحرارا يعبثون فى الثورة ومشروع نهضتها يعيق مشروع النهضة ويضع حدا للتحول الديمقراطى، وإلا كيف نفسر المذابح التى حدثت ولا تزال دون معرفة الجانى، أليسوا هم المستفيدون الوحيدون من انتكاسة الثورة؟ وهذا هو مبرر التطهير ومصدر شرعيته حتى لو لم يكن له سند من القانون القائم، إذ ليس أمامنا إلا أحد بديلين: التطهير أو العودة مرة أخرى لنظام مبارك وإن بمسميات غير المسميات ورموز غير الرموز.
وعليه يجب ممارسة تدابير التطهير فى آن واحد بقرار سياسى ليشمل الكوادر والرموز التى احتلت المناصب العامة بالدولة والحزب الحاكم سواء كانت بالتعيين أو الانتخاب (أعضاء مجلسى الشعب والشورى والمحليات) وذلك لاقترافها جرائم مؤكدة فى وضع السياسات والقوانين الجائرة، والمشاركة فى انتهاك حقوق الإنسان، وتزوير الانتخابات وإفساد الحياة السياسية وإهانة الكرامة الإنسانية للقطاع العريض من الشعب المغلوب على أمره، والإشراف على سياسات إعلامية تقوم على التضليل والتزييف ومساندة السلطة فى مسعاها، والسكوت على الفساد والتواطؤ مع المفسدين فى الأرض، وتبرير تصرفاتهم، والعمل فى اتجاه توريث السلطة على نحو شخصى أو مؤسسى، على أن تكون تدابير التطهير لمدة لا تقل عن عشر سنوات يحرم فيها من تنطيق عليه هذه الشروط من مباشرة الحقوق السياسية وتولى الوظائف العامة، ولا يغنى ذلك الإجراء عن المساءلة الجنائية إن لزم الأمر، على أن يشمل التطهير كل الضالعين فى الفساد السياسى متضمنا الوزراء، وأمن الدولة، والجامعات، والقضاء، والقوات المسلحة، والأجهزة الرقابية، والإعلام وهيئات الاستثمار وقطاع الأعمال العام، وإدارات الحكم المحلى، والخارجية وغيرها، على أن تنشأ محمكة خاصة تتولى الجانب الجنائى لمن يشملهم التطهير، أما التدابير الوقائية الخاصة بإجراءات التطهير وما يترتب عليه من حرمان فتتم بقرار سياسى.
وإذا كان التطهير وفقا للتحليل السابق يمثل ضرورة لا مفر منها فى كل القطاعات الفاعلة فى الدولة، فإن تطبيقه فى مجال الإعلام أوجب لأن فساد الإعلام ذو طبيعة خاصة فهو فساد يتخطى البيئة المنشئة له إلى البيئات المحيطة به، فالإعلام بحكم طبيعته رسالة تترك أثرها على المديين القصير والطويل على مستوى المعارف والمعتقدات والاتجاهات والسلوكيات، وعلى مستوى الفرد والجماعة والمجتمع، كما أن فساد الإعلام يحول دون مراقبة الحكومة أو الكشف عن أخطائها وخطاياها، وقد ارتبط مؤشر الفساد الدولى صعودا وهبوطا بمؤشرات حرية الإعلام، هذا ما أعلنته مؤسسات قياس الفساد، فكلما ارتفع موقع الدولة وفقا لمؤشرات الفساد انخفض موقعها وفقا لمؤشرات حرية الإعلام واستقلاله، ونفس الأمر تثبته مؤشرات قياس التنمية، فالعلاقة وثيقة بين انخفاض موقع الدولة وفقا لمؤشرات قياس حرية الإعلام وانخفاض موقع الدولة وفقا لمؤشرات التنمية، فساد الإعلام من نوع خاص، هو فساد مدمر، يتخطى حدوده ليؤثر فى غيره من الأنظمة الفرعية المرتبطة به سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، وفساد الإعلام بخلاف فساد غيره إذ يرتبط باختلال المعايير فى المجتمع، فالإعلام الفاسد يقلب الحقائق، ويشوه الواقع ويزيف الوعي، ويضلل الرأى العام، ويشيع روح اليأس، ويدعم الاستبداد، ويقاوم النزاهة والاستقلال، والشفافية، ويقلب المعايير رأسا على عقب، حتى يصل المواطن إلى قرارات غير رشيدة أساسها معلومات مغلوطة تفتقر إلى التوازن فى العرض والدقة فى التناول والموضوعية فى الطرح وهكذا إلى ما لانهاية من المآسى التى تأتى على الأخضر واليابس فى المجتمع، والإعلام الفاسد يعزل الحاكم عن المجتمع بسياج يصعب اختراقه ويحول دون مساءلته أو محاسبته إلى أن تتسع الفجوة ويزين له المعارضة باعتبارها عمل من رجس الشيطان، ويؤله الحاكم ويصنع الفرعون، ويعمل فى اتجاه التحالف بين الثروة والسلطة ويحافظ على الأوضاع القائمة والنظم القائمة والنخب المتحكمة دون أن يتيح الفرصة لانتقادها ولو على استحياء.
والواقع المعاش يقول إن الإعلام فى مصر للأسف صناعة قبل أن يكون مهنة أو رسالة من أجل الاستنارة أو التغيير المجتمعى هو صناعة هدفها المال وزيادة المبيعات وتحقيق الربح مثله فى ذلك مثل صناعة السيارات أو الكمبيوتر أو غيرها من الصناعات هدفه الربح وتعظيم العائد على الاستثمار وهذا هو شأن القنوات الخاصة والإعلام الخاص فى مصر، والذى يسمونه خطأ الإعلام المستقل، ودليل ذلك أنه مملوك لرأس المال الموالى للنظام، وكأنها صفقة بين طرفين، أحدهما يعظم ثروته عن طريق الاستثمار الاقتصادى والثانى يعظم من ثروته عن طريق الاستثمار السياسى وهما فى أمس الحاجة إلى التعاون والتآزر، لا وجود لأحدهما فى غياب الآخر.. هكذا تقول المدرسة النقدية للإعلام وهكذا تشير دراسات الاقتصاد السياسى للإعلام، وإجمالا يمكن القول إن الإعلام له موقع خاص فى الثورة المصرية وأن أى محاولة لتحرير الصحافة والإعلام قبل تطهيرهما سوف تبوء بالفشل.
أحمد
* أستاذ بكلية الإعلام جامعة القاهرة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
د محمد
ربنا بكرمك يا دكتور علي الكلام الجريء ده
فعلا مصر تحتاج لتطهير في مجالات ونواحي كثير ة
عدد الردود 0
بواسطة:
مروة محي الدين
هذا هو التطهير الإيجابي