أن تنجح الحركات الإسلامية فى الانتخابات البرلمانية، فى كل من مصر تونس والمغرب ليس مستغرباً، وأن تنجح الحركات الإسلامية فى استلاب الثورات الشبابية فى اليمن ومصر وتونس وليبيا، رغم انضمامها المتأخر إلى ركب الثورات، ليس مستغرباً هو الآخر.
فالأمر كان متوقعاً.
ألم أقل ذلك من قبل؟
كان الأمر متوقعاً.
لماذا؟
لأسباب ثلاثة.
الحركات الإسلامية بتعددها كانت ولازالت القوة السياسية الأكثر تنظيما فى مجتمعاتها، لديها قاعدة تنظيمية، يعود تاريخها إلى الثلاثينات من القرن الماضى، مكنتها من حشد الجموع لصالح رؤيتها.
الأهم، هو أن تلك الحركات الإسلامية تتمتع بتأييد مجتمعى واسع، سيكون من الخطأ تجاهل هذه العنصر، تماماً كما أنه من المهم التأكيد على أن هذا التأييد لا يرتبط بالدين فى المقام الأول، هى "خدمية اقتصادية" فى الأغلب.
كثير من الدول العربية المستبدة فشلت فى تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها، وعندما سحبت يدها من المناطق المهمشة فى مجتمعاتها، ولدت فراغاً قامت الجماعات الإسلامية بملئه.
حركة الإخوان المسلمين تمكنت من تقديم خدمات تعليمية وصحية بأسعار رمزية للمواطنين والمواطنات فى المناطق العشوائية فى كثير من البلدان، وهى خدمات يتم تقديمها مع عبوة ايديولوجية، على من يستلمها أن يفتحها ثم يتجرعها، وغالباً ما يفعل ذلك وهو مبتسم.
هل نلومه؟ أم نلوم دولنا الفاشلة؟
أذكر ما قاله لى زميل صديق عن والده، الذى كاد أن يكون ملحداً، ثم بدأ يتردد على مسجد قريب فى منطقته تسيطر عليه جماعة إسلامية، ثم أخذ يواظب على الصلاة فيه كل جمعة، سأله الزميل الصديق: "أبى، كيف تصلى معهم وأنت غير ذلك؟" رد عليه الشيخ الطاعن فى السن: "هم الوحيدون الذين دفعوا لى ثمن دواء القلب"!
هل نلومه؟ ثم هل نستغرب بعد ذلك عندما يذهب إلى صندوق الاقتراع ويصوت لصالح من دفع له ثمن دوائه؟
هذا لا يقلل من أهمية الرسالة الدينية للأحزاب الإسلامية، لأنه عنصر يجب الانتباه إليه، والمسألة هنا لا تتعلق فقط بمنظومة فكرية سهلة، تقدم حلولاً جاهزة للإنسان، كى يمارس يومه دون تفكير.
لا.
المسألة أعقد من هذا.
هى تحديداً تتعلق بحاجة إنسانية أساسية للروحانية.
لا أظننى أردد شيئاً جديداً عندما أقول، إن كثيراً من الأحزاب "اليسارية" أو "القومية النصف علمانية" تماماً ككثير من التيارات الفكرية "الحداثية" تجاهلت الجانب الروحى للإنسان فى محاولتها لتقديم حلول مجتمعية لواقعها.
كثير منها قدم تحليلا مميزاً وتفكيكاً معمقاً لأوضاعنا المجتمعية، لكنه تجاهل عند حديثه مع الإنسان أنه لم يُخلق من مادة فقط.
هناك جانب روحى يحتاج إلى إشباع.
وهذا الجانب الروحى ليس أمراً "ميتافيزيقاً" "غير عقلانى"، "يسخر" منه مثقفونا صامتين؛ بل هو احتياج إنسانى يفرض علينا أن نتعامل معه باحترام.
باحترام أيها الأعزاء والعزيزات.
باحترام.
وعندما نتعامل معه باحترام سيكون من الضرورى علينا أن نقدم تفسيرات ورؤى متعددة، أكرر متعددة، وتتجاوز التفسيرات القرواوسطية التى تمثل زاد الكثير من الحركات الإسلامية.
سيكون علينا أن نقدم البديل ثم البدائل.
السبب الثالث لنجاح الحركات الإسلامية يتعلق بالتمويل الذى يحوزون عليه من جهات حكومية ومنظمات إسلامية فى دول خليجية وعلى رأسهما قطر والسعودية.
وهى جهات ومنظمات تروج لمشروع إسلامى سياسى للمنطقة، يبتعد بها عن روح الثورات الشبابية المطالبة بمفاهيم المواطنة المتساوية، الحرية، العدالة، الكرامة، ونظام حكم يحاسب فيه الحاكم والمسئول عن فعلهما، ويمكن تغييرهما من خلال صناديق الاقتراع.
لاحظنا أن كل هذه المفاهيم لا تطبق فى تلك البلدان، بل تقف الدولتان على طرفى نقيض من هذه المشاريع.
ولذلك سيكون من المهم بالنسبة لهما أن ينقّضا على أحلام شبابنا وشاباتنا، ليس فقط فى الدول المجاورة، بل فى دولتيهما هما أولاً، من خلال الضرب بيد من حديد على من تسول له نفسه المطالبة بالتغيير فى بلديهما، ثم من خلال تقديم الدعم للحركات الإسلامية العربية، التى لم تحسم إلى يومنا هذا موقفها من مفاهيم المواطنة المتساوية، حقوق الإنسان، والحكم الديمقراطى بما يعنيه من تداول سلمى للسلطة ومساءلة لمن يصل إلى السلطة.
ولذلك، قلت لكما إن المعركة لم تبدأ بعد.
المعركة لم تبدأ بعد.
لأن التغيير فى مجتمعاتنا مسار شاق طويل، سيكون علينا أن نمهد الطريق له بأيدينا عارية.
أن تنتصر الحركات الإسلامية فى الانتخابات التى جرت فى مصر وتونس، كان أمرا متوقعاً.
لكن السؤال الذى يجب أن نطرحه على أنفسنا اليوم، هل ستنجح هذه الحركات فى الانتخابات المقبلة؟ والأهم، هل ستقوم هذه الحركات بتغيير أساس الدولة المدنى وتحولها إلى كهنوت دينى؟
أنا لا أدعو إلى إقصاء هذه الحركات الإسلامية من المسار السياسى، لأن الديمقراطية تعنى أن تشارك كل القوى السياسية الفاعلة فى العملية السياسية.
ما أدعو إليه هو أن لا نصمت عندما تبدأ هذه الحركات فى تقويض مفاهيم المواطنة المتساوية، حقوق الإنسان، والديمقراطية باسم الدين.
سيكون على كل من يقدر أن يكون ضميراً لوطنه. الوطن الإنسان. ذلك الذى نحلم به.
فلا تصمتوا خائفين. لا تصمتن خائفات.
ثم لا تلعنوا "الشعب" الذى "لايعرف مصلحته".
نحنُ مَنْ لم يعرف كيف يتحدث إلى هذا الشعب، وكيف يصل إليه.
ولذلك سيكون علينا نحن أن نقدم البديل ثم البدائل.
بديلاً مفهوماً.
بديلاً يحترم الإنسان بعقله وروحه وجسده.
ولذلك، فإن مصيركم بأيديكم. مصيركن بأيديكن.
والعجز ثم الاستسلام ليس خياراً. لأن أحلامنا، أحلامنا، نحن من يحققها. والمعركة، المعركة، عزيزتى القارئة عزيزى القارى، لم تبدأ بعد.
أما البداية الحقيقة لها، فهى أن تكون أنتَ وأنتِ، أن تكون موجوداً.
* أستاذة علوم سياسية بجامعة زيورخ بسويسرا .
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ahmed mostafa
لحظة من فضلك!
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
رمال الصمت
عدد الردود 0
بواسطة:
mustapha
إختلافات !!
عدد الردود 0
بواسطة:
عادل قطب
التورة